الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ومن حركت القبلة شهوته كره له أن يقبل وهو صائم ، والكراهة كراهة تحريم ، وإن [ تكن ] لم تحرك [ القبلة ] شهوته قال الشافعي : فلا بأس بها وتركها أولى والأصل في ذلك ما روت عائشة رضي الله عنها قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه } وعن ابن عباس أنه أرخص فيها للشيخ وكرهها للشاب ولأنه في حق أحدهما لا يأمن أن ينزل فيفسد الصوم وفي الآخر يأمن ففرق بينهما ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث عائشة رواه البخاري ومسلم بهذا اللفظ ، وفي رواية لمسلم { يقبل في رمضان وهو صائم } وعن عمر بن أبي سلمة { أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيقبل الصائم ؟ فقال : سل هذه لأم سلمة فأخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك ، فقال : يا رسول الله ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله إني أتقاكم لله وأخشاكم له } رواه مسلم وعمر بن أبي سلمة هذا هو الحميري هكذا جاء مبينا [ ص: 396 ] في رواية البيهقي وليس هو ابن أم سلمة . وعن عمر رضي الله عنه قال : { هششت يوما فقبلت وأنا صائم ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : إني صنعت اليوم أمرا عظيما ، قبلت وأنا صائم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم ؟ قلت : لا بأس بذلك ، قال : ففيم ؟ } رواه أبو داود ، وقد سبق بيان حديث ذكره المصنف ، ومما جاء في كراهتها للشباب ونحوه حديث ابن عباس قال : { رخص للكبير الصائم في المباشرة وكره للشاب } رواه ابن ماجه هكذا ، وظاهره أنه مرفوع ورواه مالك والشافعي والبيهقي بأسانيدهم الصحيحة .

                                      وعن عطاء بن يسار : أن ابن عباس سئل عن القبلة للصائم فأرخص فيها للشيخ ، وكرهها للشاب ، وهكذا رواه أبو داود موقوفا عن ابن عباس .

                                      وعن أبي هريرة { أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له ، وأتاه آخر فنهاه ، هذا الذي رخص له ، شيخ والذي نهاه شاب } رواه أبو داود بإسناد جيد ولم يضعفه . وعن ابن عمرو بن العاص قال : { كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء شاب فقال : يا رسول الله ، أقبل وأنا صائم ؟ فقال : لا . فجاء شيخ فقال : أقبل وأنا صائم ؟ قال نعم } رواه أحمد بن حنبل بإسناد ضعيف من رواية ابن لهيعة .

                                      ( وأما ) الحديث المروي عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت : { سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل قبل امرأته وهما صائمان ، فقال : قد أفطرا } رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني بإسناد ضعيف ، قال الدارقطني : راويه مجهول ، قال : ولا يثبت هذا . وعن الأسود قال : { قلت لعائشة أيباشر الصائم ؟ قالت : لا ، قلت : أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر ؟ قلت : كان أملككم لإربه } رواه البيهقي بإسناد صحيح فهذه جملة من الأحاديث والآثار الواردة في القبلة ( وقولها ) لإربه - بكسر الهمزة مع إسكان الراء - وروي أيضا بفتحهما جميعا . [ ص: 397 ] أما أحكام المسألة ) فهو كما قاله المصنف تكره القبلة على من حركت شهوته وهو صائم ، ولا تكره لغيره ، لكن الأولى تركها ، ولا فرق بين الشيخ والشاب في ذلك ، فالاعتبار بتحريك الشهوة وخوف الإنزال ، فإن حركت شهوة شاب أو شيخ قوي كرهت ، وإن لم تحركها لشيخ أو شاب ضعيف لم تكره والأولى تركها وسواء قبل الخد أو الفم أو غيرهما ، وهكذا المباشرة باليد والمعانقة لهما حكم القبلة ثم الكراهة في حق من حركت شهوته كراهة تحريم عند المصنف وشيخه القاضي أبي الطيب والعبدري وغيرهم . وقال آخرون : كراهة تنزيه ما لم ينزل ، وصححه المتولي . قال الرافعي وغيره : الأصح كراهة تحريم ، وإذا قبل ولم ينزل لم يبطل صومه بلا خلاف ، عندنا سواء قلنا : كراهة تحريم أو تنزيه .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في القبلة للصائم ذكرنا أن مذهبنا كراهتها لمن حركت شهوته ولا تكره لغيره والأولى تركها فإن قبل من تحرك شهوته ولم ينزل لم يبطل صومه . قال ابن المنذر : رخص في القبلة عمر بن الخطاب وابن عباس وأبو هريرة وعائشة وعطاء والشعبي والحسن وأحمد وإسحاق ، قال : وكان سعد بن أبي وقاص لا يرى بالمباشرة للصائم بأسا ، وكان ابن عمر ينهى عن ذلك . وقال ابن مسعود : يقضي يوما مكانه ، وكره مالك القبلة للشاب والشيخ في رمضان ، وأباحتها طائفة للشيخ دون الشاب ، مما قاله ابن عباس ، وقال أبو ثور : إن خاف المجاوزة من القبلة إلى غيرها لم يقبل ، هذا نقل ابن المنذر ومذهب أبي حنيفة كمذهبنا . وحكى الخطابي عن سعيد بن المسيب أن من قبل في رمضان قضى يوما مكانه وحكاه الماوردي عن محمد بن الحنفية وعبد الله بن شبرمة قال : وقال سائر الفقهاء : القبلة لا تفطر إلا أن يكون معها إنزال فإن أنزل معها أفطر ولزمه القضاء دون الكفارة ، ودلائل هذه المذاهب تعرف مما سبق في الأحاديث والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية