الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ذكر تعارض الأصل والظاهر .

                قال النووي في شرح المهذب : ذكر جماعة من متأخري الخراسانيين : أن كل مسألة تعارض فيها أصل وظاهر أو أصلان ففيها قولان ، وهذا الإطلاق ليس على ظاهره فإن لنا مسائل يعمل فيها بالظاهر بلا خلاف ، كشهادة عدلين ، فإنها تفيد الظن ، ويعمل بها بالإجماع ، ولا ينظر إلى أصل براءة الذمة ، ومسألة بول الظبية وأشباهها ، ومسائل يعمل فيها بالأصل بلا خلاف .

                كمن ظن حدثا ، أو طلاقا ، أو عتقا ، أو صلى ثلاثا أم أربعا فإنه يعمل فيها بالأصل بلا خلاف ، قال : والصواب في الضابط ما حرره ابن الصلاح فقال : إذا تعارض أصلان أو أصل وظاهر ، وجب النظر في الترجيح ، كما في تعارض الدليلين ، فإن تردد في الراجح فهي مسائل القولين ، وإن ترجح دليل الظاهر حكم به بلا خلاف ، وإن ترجح دليل أصلي حكم به بلا خلاف انتهى .

                فالأقسام حينئذ أربعة : الأول : ما يرجح فيه الأصل جزما ، ومن أمثلته جميع ما تقدم من الفروع وضابطه أن يعارضه احتمال مجرد .

                الثاني : ما ترجح فيه الظاهر جزما وضابطه : أن يستند إلى سبب منصوب شرعا ، كالشهادة تعارض الأصل ، والرواية ، واليد في الدعوى ، وإخبار الثقة بدخول الوقت أو بنجاسة الماء ، وإخبارها بالحيض ، وانقضاء الأقراء ، أو معروف عادة ، كأرض على شط نهر الظاهر أنها تغرق وتنهار في الماء ، فلا يجوز استئجارها ، وجوز الرافعي تخريجه على تقابل الأصل والظاهر .

                ومثل الزركشي لذلك باستعمال السرجين في أواني الفخار ، فيحكم بالنجاسة قطعا ، ونقله عن الماوردي ، وبالماء الهارب من الحمام لاطراد العادة بالبول فيه أو يكون معه ما يعتضد به كمسألة بول الصبية .

                ومنه : لو أخذ المحرم بيض دجاجة وأحضنها صيدا ففسد بيضه ، ضمنه لأن الظاهر أن الفساد نشأ من ضم بيض الدجاج إلى بيضه ، ولم يحك الرافعي فيه خلافا .

                [ ص: 65 ] الثالث : ما يرجح فيه الأصل على الأصح وضابطه : أن يستند الاحتمال إلى سبب ضعيف وأمثلته لا تكاد تحصر .

                منها : الشيء الذي لا يتيقن نجاسته ، ولكن الغالب فيه النجاسة ، كأواني وثياب مدمني الخمر ، والقصابين والكفار المتدينين بها كالمجوس ، ومن ظهر اختلاطه بالنجاسة وعدم احترازه منها ، مسلما كان أو كافرا ، كما في شرح المهذب عن الإمام ، وطين الشارع والمقابر المنبوشة حيث لا تتيقن . والمعنى بها كما قال الإمام وغيره : التي جرى النبش في أطرافها والغالب على الظن انتشار النجاسة فيها وفي جميع ذلك قولان ، أصحهما الحكم بالطهارة استصحابا للأصل .

                ومن ذلك : ما لو أدخل الكلب رأسه في الإناء ، وأخرجه وفمه رطب ، ولم يعلم ولوغه ، والأصح أنه لا يحكم بنجاسة الإناء ، فإن أخرجه يابسا ، فطاهر قطعا . ومن ذلك : لو سقط في بئر فأرة ، وأخذ دلو قبل أن ينزح إلى الحد المعتبر ، وغلب على الظن أنه لا يخلو من شعر ، ولم ير ، ففيه القولان . والأظهر الطهارة .

                ومنها : إذا تنحنح الإمام وظهر منه حرفان فهل يلزم المأموم المفارقة أم لا للظاهر الغالب المقتضي لبطلان الصلاة ، أولا ، لأن الأصل بقاء صلاته ، ولعله معذور في التنحنح ، فلا يزال الأصل إلا بيقين ؟ قولان أصحهما : الثاني .

                ومنها : لو امتشط المحرم فانفصلت من لحيته شعرات ، ففيه وجهان ، أصحهما : لا فدية ; لأن النتف لم يتحقق ، والأصل براءة الذمة . والثاني : يجب لأن المشط سبب ظاهر ، فيضاف إليه ، كإضافة الإجهاض إلى الضرب . ومنها : الدم الذي تراه الحامل ، هل هو حيض ؟ قولان ، أصحهما : نعم ; لأن الأمر متردد بين كونه دم علة ، أو دم جبلة ، والأصل السلامة . والثاني : لا ; لأن الغالب في الحامل عدم الحيض .

                ومنها : لو قذف مجهولا وادعى رقه ، فقولان ، أصحهما : أن القول قول القاذف ، لأن الأصل براءة ذمته والثاني : قول المقذوف ; لأن الظاهر الحرية ، فإنها الغالب في الناس .

                ومنها : لو جرت خلوة بين الزوجين ، وادعت الإصابة فقولان أصحهما : تصديق المنكر ; لأن الأصل علمها .

                والثاني : تصديق مدعيها ; لأن الظاهر من الخلوة الإصابة غالبا .

                ومنها : لو اختلف الزوجان الوثنيان قبل الدخول فقال الزوج : أسلمنا معا ، فالنكاح باق وأنكرت ، فالقول قوله في الأظهر ، لأن الأصل بقاء النكاح ، والثاني قولها لأن التساوي في الإسلام نادر فالظاهر خلافه .

                [ ص: 66 ] ومنها : دعوى المديون لا في مقابلة مال ، الإعسار ، فيه وجهان ، أصحهما : القول قوله ; لأن الأصل العدم ، والثاني : لا ; لأن الظاهر من حال الحر أنه يملك شيئا . ومنها : إذا ادعى الغاصب عيبا خلقيا في المغصوب ، كقوله : ولد أكمه أو أعرج أو فاقد اليد ، فوجهان أصحهما : القول قوله ; لأن الأصل العدم ، ويمكن المالك إقامة البينة .

                والثاني : تصديق المالك لأن الغالب السلامة بخلاف ما لو ادعى عيبا حادثا فإن الأظهر تصديق المالك ; لأن الأصل والغالب دوام السلامة والثاني الغاصب لأن الأصل براءة ذمته ، فهذه الصورة تعارض فيها أصلان ، واعتضد أحدهما بظاهر .

                ونظير ذلك : ما لو جنى على طرف ، وزعم نقصه ، فإنه إن ادعى عيبا خلقيا في عضو ظاهر صدق الجاني في الأظهر لأن الأصل العدم وبراءة الذمة . والمالك يمكنه إقامة البينة ، وإن ادعى عيبا حادثا أو أصليا في عضو باطن فالأظهر : تصديق المجني عليه ; لأن الأصل السلامة .

                ومنها : لو ادعى المالك أنه كان كاتبا صدق الغاصب لأن الأصل العدم ، وبراءة الذمة مما زاد .

                والقول الثاني : المالك لأن الغالب أن صفات العبد لا يعرفها إلا السيد . ومنها : لو قال : هذا ولدي من جاريتي هذه ، لحقه عند الإمكان ، وهل يثبت كون الجارية أم ولد لأنه الظاهر أولا لاحتمال أن يكون استولدها بالزوجية ؟ فيه قولان رجح الرافعي الثاني ، قال : ولهما خروج على تقابل الأصل والظاهر .

                ومنها : لو قال الراهن للمرتهن لم تقبض العين المرهونة عن الرهن بل أعرتكها فالأصح أن القول قوله لأن الأصل عدم اللزوم وعدم الإذن في القبض وقيل : قول المرتهن لأن الظاهر أنه قبضه عن الرهن .

                ومنها : جاء المتبايعان معا ، فقال أحدهما : لم أفارقه ، فلي خيار المجلس ، فالقول قوله لأن الأصل عدم التفرق ، كذا أطلق الأصحاب قال الرافعي : وهو بين إن قصرت المدة . وأما إذا طالت فدوام الاجتماع خلاف الظاهر ، فلا يبعد تخريجه على تعارض الأصل والظاهر . وتابعه ابن الرفعة .

                ومنها : طرح العصير في الدن ، وأحكم رأسه ثم حلف أنه لم يستحل خمرا ، ولم يفتح رأسه إلى مدة ، ولما فتح وجده خلا فوجهان أحدهما لا يحنث لأن الأصل عدم الاستحالة وعدم الحنث ، والثاني إن كان ظاهر الحال صيرورته خمرا وقت الحلف حنث وإلا فلا .

                ومنها جرح المحرم صيدا وغاب ولم يعلم هل برئ أو مات ؟ فالمذهب أن [ ص: 67 ] عليه ضمان ما نقص ، لأن الأصل براءة الذمة من الزائد ، وقيل : عليه الجزاء كاملا ، لأنه قد صيره غير ممتنع ، والظاهر بقاؤه على هذه الحالة ، ولو غاب ووجده ميتا ولم يدر هل مات بجرحه أو بسبب آخر فهل يجب جزاء كامل ، أو ضمان الجرح فقط ؟ قولان قال في الروضة : أصحهما الثاني .

                ونظيره في مسألة الظبية : أن لا يرى الماء عقب البول ، بل تغيب ثم يجده متغيرا فإنه لا يحكم بأن التغير عن البول .

                ونظيره أيضا : لو جرح الصيد وغاب ثم وجده ميتا فإنه لا يحل في الأظهر . ومنها : لو رمى حصاة إلى المرمى وشك : هل وقعت فيه أو لا ؟ فقولان أصحهما لا يجزيه لأن الأصل عدم الوقوع فيه وبقاء الرمي عليه ، والثاني : يجزيه لأن الظاهر وقوعها في المرمى .

                الرابع : ما ترجح فيه الظاهر على الأصل بأن كان سببا قويا منضبطا وفيه فروع : منها : من شك بعد الصلاة أو غيرها من العبادات ، في ترك ركن غير النية ، فالمشهور أنه لا يؤثر لأن الظاهر انقضاء العبادة على الصحة ، والثاني يقول : الأصل عدم فعله ، ومثله : ما لو قرأ الفاتحة ثم شك بعد الفراغ منها في حرف أو كلمة فلا أثر له . نقله في شرح المهذب عن الجويني .

                وكذا لو استجمر وشك : هل استعمل حجرين أو ثلاثة كما في فتاوى البغوي قال الزركشي : وقياسه كذلك فيما لو غسل النجس وشك بعد ذلك : هل استوعبه ؟ ومنها : اختلف المتعاقدان في الصحة والفساد فالأصح تصديق مدعي الصحة ; لأن الظاهر جريان العقود بين المسلمين على قانون الشرع ، والثاني لا لقول الأصل عدمها .

                ومنها : لو جاء من قدام الإمام واقتدى وشك هل تقدم ؟ فالأصح الصحة .

                وقيل : لا ; لأن الأصل عدم تأخره .

                ومنها : لو وكل بتزويج ابنته ثم مات الموكل ولم يعلم : هل مات قبل العقد أو بعده ؟ فالأصل عدم النكاح وصححه الروياني وقال القاضي حسين " الأصح صحته لأن الظاهر بقاء الحياة .

                ومنها : لو ادعى الجاني رق المقتول صدق القريب في الأصح لأنه الظاهر . الغالب ومنها : شهد في واقعة وعدل ثم شهد في أخرى بعد زمان طويل فالأصح طلب تعديله ثانيا لأن طول الزمان يغير الأحوال ، والثاني : لا لأن الأصل عدم التغيير .

                ومنها : إذا جومعت فقضت شهوتها ثم اغتسلت ثم خرج منها مني الرجل فالأصح وجوب إعادة الغسل ، لأن الظاهر خروج منيها معه ، والثاني لا ; لأن الأصل عدم خروجه .

                [ ص: 68 ] ومنها : قال المالك : أجرتك الدابة ، وقال الراكب ، بل أعرتني ، ففي قول ، يصدق الراكب ; لأن الأصل براءة ذمته من الأجرة ، والأصح : تصديق المالك ، إذا مضت مدة لمثلها أجرة ، والدابة باقية ، لأن الظاهر يقتضي الاعتماد على قوله في الإذن فكذلك في صفته .

                ومنها : لو ألقاه في ماء أو نار ، فمات ، وقال الملقي : كان يمكنه الخروج ، ففي ، قول يصدق ; لأن الأصل براءة ذمته ، والأصح عند النووي : يصدق الولي لأن الظاهر أنه لو تمكن لخرج .

                ومنها : إذا رأت المرأة الدم لوقت يجوز أن يكون حيضا أمسكت عما تمسك عنه الحائض ; لأن الظاهر أنه حيض ، وقيل : لا ، عملا بالأصل .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية