الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 386 ] آ. (14) قوله: من خلق : فيه وجهان، أحدهما: أنه فاعل "يعلم" والمفعول محذوف تقديره: ألا يعلم الخالق خلقه، وهذا هو الذي عليه جمهور الناس وبه بدأ الزمخشري . والثاني: أن الفاعل مضمر يعود على الباري سبحانه وتعالى، و"من" مفعول به أي: ألا يعلم الله من خلقه. قال الشيخ : "والظاهر أن "من" مفعول، والمعنى: أينتفي علمه بمن خلقه، وهو الذي لطف علمه ودق"، ثم قال: "وأجاز بعض النحويين أن يكون "من" فاعلا والمفعول محذوف، كأنه قال: ألا يعلم الخالق سركم وجهركم، وهو استفهام، معناه الإنكار". قلت: وهذا الوجه الذي جعله هو الظاهر يعزيه الناس لأهل الزيغ والبدع الدافعين لعموم الخلق لله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أطنب مكي في ذلك، وأنكر على القائل به ونسبه إلى ما ذكرت فقال: وقد قال بعض أهل الزيغ: إن "من" في موضع نصب اسم للمسرين والجاهرين ليخرج الكلام عن عمومه ويدفع عموم الخلق عن الله تعالى، ولو كان كما زعم لقال: ألا يعلم ما خلق لأنه إنما تقدم ذكر ما تكن الصدور فهو في موضع "ما" ولو أتت "ما" في موضع "من" لكان فيه أيضا بيان العموم: أن الله خالق كل شيء من أقوال الخلق أسروها أو أظهرها خيرا كانت أو شرا، ويقوي ذلك " إنه عليم بذات الصدور " ، ولم يقل: عليم بالمسرين والمجاهرين وتكون "ما" في موضع [ ص: 387 ] نصب، وإنما يخرج الآية من هذا العموم إذا جعلت "من" في موضع نصب اسما للأناس المخاطبين قبل هذه الآية، وقوله: "بذات الصدور" يمنع من ذلك. انتهى. ولا أدري كيف يلزم ما قاله مكي بالإعراب الذي ذكره والمعنى الذي أبداه؟ وقد قال بهذا القول أعني الإعراب الثاني جماعة من المحققين ولم يبالوا بما ذكره لعدم إفهام الآية إياه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري بعد كلام ذكره: ثم أنكر ألا يحيط علما بالمضمر والمسر والمجهر من خلق الأشياء، وحاله أنه اللطيف الخبير المتوصل علمه إلى ما ظهر وما بطن. ويجوز أن يكون "من خلق" منصوبا بمعنى: ألا يعلم مخلوقه، وهذه حاله، ثم قال: فإن قلت: قدرت في "ألا يعلم" مفعولا على معنى: ألا يعلم ذلك المذكور مما أضمر في القلب وأظهر باللسان من خلق؟ فهلا جعلته مثل قولهم: "هو يعطي ويمنع"، وهلا كان المعنى: ألا يكون عالما من هو خالق لأن الخالق لا يصح إلا مع العلم؟ قلت: أبت ذلك الحال التي هي قوله: وهو اللطيف الخبير لأنك لو قلت: ألا يكون عالما من هو خالق وهو اللطيف الخبير لم يكن معنى صحيحا; لأن "ألا يعلم" معتمد على الحال والشيء لا يوقت بنفسه، فلا يقال: "ألا يعلم وهو عالم، ولكن ألا يعلم كذا، وهو عالم بكل شيء".

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية