الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويستحب أن يتسحر للصوم ، لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { تسحروا فإن في السحور بركة } ولأن فيه معونة على الصوم ، ويستحب تأخير السحور ; لما روي أنه قيل لعائشة : { إن عبد الله يعجل الفطر ويؤخر السحور ، فقالت : هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل } ولأن السحور يراد للتقوي على الصوم ، والتأخير أبلغ في ذلك فكان أولى ، والمستحب أن يعجل الفطر إذا تحقق غروب الشمس لحديث عائشة رضي الله عنها ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا يزال هذا الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر ، إن اليهود والنصارى يؤخرون . } )

                                      [ ص: 404 ]

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 404 ] ( الشرح ) حديث أنس رواه البخاري ومسلم .

                                      وحديث عائشة في قصة عبد الله رواه مسلم ، وعبد الله هذا هو ابن مسعود ، وينكر على المصنف قوله : روى بصيغة التمريض ، وهو حديث صحيح ، وإنما تقال صيغة التمريض في ضعيف . وقد سبق التنبيه على مثل هذا مرات كثيرة . وأما حديث أبي هريرة فرواه أبو داود بلفظه هذا ، إلا أنه قال : { لأن اليهود والنصارى يؤخرون } وفي نسخ المهذب ( أن اليهود ) وكذا رواه البيهقي في السنن الكبيرة وابن ماجه بإسناد صحيح فينبغي أن يقرأ بفتح الهمزة من أن ; ليوافق رواية أبي داود ، وهذا الحديث أصله في الصحيحين من رواية سهل بن سعد كما سأذكره في فرع منفرد للأحاديث الواردة في السحور ، ورواية أبي هريرة التي ذكرها المصنف وأبو داود وإسنادها صحيح على شرط مسلم . وقوله صلى الله عليه وسلم : { فإن في السحور بركة } روي - بفتح السين - وهو المأكول كالخبز وغيره - وبضمها - وهو الفعل والمصدر ، وسبب البركة فيه تقويته الصائم على الصوم ، وتنشيطه له ، وفرحه به - وتهوينه عليه ، وذلك سبب لكثرة الصوم .

                                      ( أما حكم المسألة ) فاتفق أصحابنا وغيرهم من العلماء على أن السحور سنة ، وأن تأخيره أفضل وعلى أنتعجيل الفطر سنة بعد تحقق غروب الشمس ، ودليل ذلك كله الأحاديث الصحيحة ، ولأن فيهما إعانة على الصوم ، ولأن فيهما مخالفة للكفار كما في حديث أبي هريرة المذكور في الكتاب ، والحديث الصحيح الذي سأذكره إن شاء الله تعالى " { فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر } " ولأن محل الصوم هو النهار فلا معنى لتأخير الفطر والامتناع من السحور في آخر الليل ; ولأن بغروب الشمس صار مفطرا فلا فائدة في تأخير الفطر . قال أصحابنا : وإنما يستحب تأخير السحور ما دام متيقنا بقاء الليل : فمتى حصل شك فيه فالأفضل تركه ، وقد سبقت المسألة في فصل وقت الدخول في الصوم . وقد نص الشافعي في الأم على أنه إذا شك في بقاء الليل ولم يتسحر يستحب له ترك السحور ، فإن تسحر في هذه الحالة صح صومه [ ص: 405 ] لأن الأصل بقاء الليل . قال القاضي أبو الطيب في المجرد : قال الشافعي في الأم إذا أخر الإفطار بعد تحقق غروب الشمس ، فإن كان يرى الفضل في تأخيره كرهت ذلك ; لمخالفة الأحاديث ، وإن لم ير الفضل في تأخيره فلا بأس ; لأن الصوم لا يصلح في الليل . هذا نصه .

                                      ( فرع ) وقت السحور بين نصف الليل وطلوع الفجر .

                                      ( فرع ) يحصل السحور بكثير المأكول وقليله ، ويحصل بالماء أيضا ، وفيه حديث سنذكره .

                                      ( فرع ) قال ابن المنذر في الأشراف : أجمعت الأمة على أن السحور مندوب إليه مستحب لا إثم على من تركه . فرع في الأحاديث الواردة في السحور وتأخيره وتعجيل الفطر عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { تسحروا فإن في السحور بركة } رواه البخاري ومسلم . وعن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر } رواه مسلم . أكلة السحر بفتح الهمزة هي السحور ، وعن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { عليكم بهذا السحور فإنه هو الغذاء المبارك } رواه النسائي بإسناد جيد ورواه أبو داود والنسائي من رواية العرباض بن سارية بمعناه وفي إسناده نظر .

                                      وعن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر } رواه البخاري ومسلم وسبق في الكتاب معناه من رواية أبي هريرة بزيادة . وعن أبي عطية قال : { دخلت أنا ومسروق على عائشة فقلنا : يا أم المؤمنين ، رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة ، والآخر يؤخر الإفطار ، ويؤخر الصلاة فقالت : أيهما الذي يعجل الإفطار ويعجل الصلاة ؟ [ ص: 406 ] قلنا : عبد الله بن مسعود . قالت : كذلك كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم } رواه مسلم ، وفي رواية له " يعجل المغرب " .

                                      وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم : { لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور } رواه الإمام أحمد .

                                      وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجل : { أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا } رواه الترمذي وقال حديث حسن . وعن ابن عمر قال : { كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان بلال وابن أم مكتوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ، قال : ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا } رواه البخاري ومسلم . وعن نافع عن ابن عمر ، وعن القاسم عن عائشة { أن بلالا كان يؤذن بليل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر } رواه البخاري . وعن زيد بن ثابت قال : { تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة ، قلت : كم كان قدر ما بينهما ؟ قال : خمسين آية } رواه البخاري ومسلم .

                                      وعن سهل بن سعد قال : " كنت أتسحر في أهلي ثم تكون سرعتي أن أدرك صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " رواه البخاري . وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { تسحروا ولو بجرعة ماء } وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم { أكلة السحر بركة فلا تدعوه ، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء } رواهما ابن أبي عاصم في كتابه بإسنادين ضعيفين ، وفي الباب أحاديث كثيرة غير ما ذكرته .

                                      ( وأما ) ما رواه مالك والشافعي والبيهقي بأسانيدهم الصحيحة عن حميد بن عبد الرحمن " أن عمر وعثمان رضي الله عنهما كانا يصليان المغرب حين ينظران إلى الليل الأسود ثم يفطران بعد الصلاة وذلك في رمضان " فقال البيهقي في المبسوط : قال الشافعي : كأنهما يريان تأخير الفطر واسعا ، لا أنهما يتعمدان فضيلة في ذلك . ونقل الماوردي أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يؤخران الإفطار ، وأجاب بأنهما أرادا بيان جواز ذلك لئلا يظن وجوب التعجيل ، وهذا [ ص: 407 ] التأويل ظاهر ، فقد روى البيهقي بإسناده الصحيح عن عمرو بن ميمون ، وهو من أكبر التابعين قال : " كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أعجل الناس إفطارا وأبطأهم سحورا " وأما الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : { إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نعجل إفطارنا ونؤخر سحورنا ونضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة } فضعيف ، رواه البيهقي هكذا من رواية ابن عباس ، ومن رواية ابن عمر ، ومن رواية أبي هريرة ، وقال : كلها ضعيفة ( وأصح ) ما ورد فيه من كلام عائشة موقوفا عليها وفي حديث رواه البيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { نعم سحور المؤمن التمر } .




                                      الخدمات العلمية