الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الذي قرر به أمرا فيما يظنه السامع ظاهرا؛ كما كان جديرا بأن ينكر بعض الواقفين مع الظواهر تخصيص الألباء به؛ سبب عن ذلك الإنكار؛ في قوله: أفمن شرح الله ؛ أي: الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل؛ صدره للإسلام ؛ أي: للانقياد للدليل؛ فكان قلبه لينا؛ فانقاد للإيمان؛ فاهتدى لباطن هذا الدليل؛ فهو ؛ أي: فيتسبب عن إسلام ظاهره وباطنه للداعي؛ أن كان على نور ؛ أي: بيان عظيم بكتاب؛ به يأخذ؛ وبه يعطي؛ وإليه في كل أمر ينتهي؛ قد استعلى عليه؛ فهو كأنه راكبه؛ يصرفه حيث يشاء؛ وزاد في بيان عظيم هدايته بلفت [ ص: 486 ] القول إلى مظهر الإحسان؛ فقال: من ربه ؛ أي: المحسن إليه إحسانه في انقياده؛ فبشرى له؛ فهو على صراط مستقيم؛ كمن جعل صدره ضيقا حرجا؛ فكان قلبه قاسيا؛ فكان في الظلام خابطا؛ فويل له - هكذا كان الأصل - ولكن قيل: فويل للقاسية قلوبهم ؛ أي: لضيق صدورهم؛ وزاد في بيان ما بلاهم به من عظيم القسوة؛ بلفت القول إلى الاسم الدال على جميع الأسماء الحسنى؛ والصفات العلا؛ فقال: من ذكر الله ؛ فإن من تبتدئ قسوته مما تطمئن به القلوب؛ وتلين له الجلود؛ من مدح الجامع لصفات الكمال؛ فهو أقسى من الجلمود.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان من وسم بهذا الخزي أخسر الناس صفقة؛ أنتج وصفه قوله (تعالى): أولئك ؛ أي: الأباعد الأباغض؛ في ضلال مبين ؛ أي: واضح في نفسه؛ موضح أمره لكل أحد؛ فالآية من الاحتباك: ذكر أولا الشرح والنور؛ دليلا على حذف ضده ثانيا؛ وثانيا الويل للقاسي؛ والضلال؛ دليلا على حذف ضده أولا؛ روى البيهقي ؛ في الشعب؛ والبغوي ؛ من طريق الثعلبي ؛ والحكيم الترمذي ؛ من وجه آخر؛ عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية؛ قال: فقلنا: يا رسول الله؛ كيف انشراح صدورهم؟ قال: "إذا دخل النور القلب [ ص: 487 ] انشرح؛ وانفسح"؛ قلنا: يا رسول الله؛ فما علامة ذلك؟ قال: "الإنابة إلى دار الخلود؛ والتجافي عن دار الغرور؛ والتأهب للموت قبل نزول الموت"؛ وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري: والنور الذي من قبله - سبحانه - نور اللوائح؛ بنجوم العلم؛ ثم نور اللوامع؛ ببيان الفهم؛ ثم نور المحاضرة؛ بزوائد اليقين؛ ثم نور المكاشفة؛ بتجلي الصفات؛ ثم نور المشاهدة بظهور الذات؛ ثم أنوار الصمدية؛ بحقائق التوحيد؛ فعند ذلك لا وجد؛ ولا قصد؛ ولا قرب؛ ولا بعد؛ كلا؛ بل هو الله الواحد القهار؛ وذلك كما قيل: المؤمن بقوة عقله يوجب استقلاله بعلمه؛ إلى أن يبدو؛ ومنه كمال تمكنه من وقادة بصيرته؛ ثم إذا بدا له لائحة من سلطان المعارف تصير تلك الأنوار مقمرة؛ فإذا بدت أنوار التوحيد استهلكت تلك الجملة؛ فلما استبان الصبح أدرج ضوؤه بأنواره أنوار تلك الكواكب.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية