الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وسئل رحمه الله عن الفلوس تشترى نقدا بشيء معلوم وتباع إلى أجل بزيادة فهل يجوز ذلك ؟ أم لا ؟ .

                التالي السابق


                فأجاب : الحمد لله . هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين العلماء وهو صرف الفلوس النافقة بالدراهم هل يشترط فيها الحلول ؟ أم يجوز فيها النسأ ؟ على قولين مشهورين هما قولان في مذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل : أحدهما : وهو منصوص أحمد وقول مالك وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة ; أنه لا يجوز . وقال مالك : وليس بالحرام البين .

                والثاني : وهو قول الشافعي وأبي حنيفة في الرواية الأخرى [ ص: 469 ] وابن عقيل من أصحاب أحمد : أنه يجوز . ومنهم من يجعل نهي أحمد للكراهة ; فإنه قال : هو يشبه الصرف . والأظهر المنع من ذلك ; فإن الفلوس النافقة يغلب عليها حكم الأثمان وتجعل معيار أموال الناس .

                ولهذا ينبغي للسلطان أن يضرب لهم فلوسا تكون بقيمة العدل في معاملاتهم ; من غير ظلم لهم . ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلا ; بأن يشتري نحاسا فيضربه فيتجر فيه ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم ويضرب لهم غيرها ; بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه ; للمصلحة العامة ويعطي أجرة الصناع من بيت المال . فإن التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل ; فإنه إذا حرم المعاملة بها حتى صارت عرضا وضرب لهم فلوسا أخرى : أفسد ما عندهم من الأموال بنقص أسعارها فيظلمهم فيها وظلمهم فيها بصرفها بأغلى سعرها .

                وأيضا فإذا اختلفت مقادير الفلوس : صارت ذريعة إلى أن الظلمة يأخذون صغارا فيصرفونها وينقلونها إلى بلد آخر ويخرجون صغارها فتفسد أموال الناس وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس } فإذا كانت مستوية المقدار بسعر النحاس ولم يشتر ولي الأمر النحاس والفلوس الكاسدة ليضربها فلوسا ويتجر بذلك : حصل بها المقصود [ ص: 470 ] من الثمنية .

                وكذلك الدراهم ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن بيع الدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين } { و نهى عن صرف الدراهم بالدنانير ، إلا يدا بيد } وتحريم النسأ متفق عليه بين الأمة . وتحريم التفاضل يدا بيد قد ثبت فيه أحاديث صحيحة وقال به جمهور الأمة ولكن لله ولرسوله في الشريعة من الحكمة البالغة والنعمة التامة والرحمة العامة ; ما قد يخفى على كثير من العلماء .

                وقد اختلفوا في كثير من " مسائل الربا " قديما وحديثا . واختلفوا في تحريم التفاضل في الأصناف الستة الذهب والفضة والحنطة والشعير والتمر والملح : هل هو التماثل ؟ وهو الكيل والوزن . أو هو الثمنية والطعم أو هو الثمنية والتماثل مع الطعم والقوت وما يصلحه ؟ أو النهي غير معلل والحكم مقصور على مورد النص ؟ على أقوال مشهورة .

                و " الأول " مذهب أبي حنيفة وأحمد في أشهر الروايات عنه . و " الثاني " قول الشافعي وأحمد في رواية . و " الثالث " قول أحمد في رواية ثالثة اختارها أبو محمد وقول مالك قريب من هذا وهذا القول أرجح من غيره . و " الرابع " قول داود وأصحابه ويروى عن قتادة . ورجح ابن عقيل هذا القول في مفرداته وضعف [ ص: 471 ] الأقوال المتقدمة . وفيها قول شاذ : أن العلة المالية وهو مخالف للنصوص ولإجماع السلف . والاتحاد في الجنس شرط على كل قول من ربا الفضل .

                والمقصود هنا : الكلام في علة تحريم الربا في الدنانير والدراهم . والأظهر أن العلة في ذلك هو الثمنية ; لا الوزن كما قاله جمهور العلماء ولا يحرم التفاضل في سائر الموزونات كالرصاص والحديد والحرير والقطن والكتان .

                ومما يدل على ذلك اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل فلو كانت العلة الوزن لم يجز هذا . والمنازع يقول : جواز هذا استحسان وهو نقيض للعلة . ويقول : إنه جوز هذا للحاجة ; مع أن القياس تحريمه فيلزمه أن يجعل العلة الربا بما ذكره . وذلك خلاف قوله ، وتخصيص العلة الذي قد سمي استحسانا إن لم يبين دليل شرعي يوجب تعليق الحكم للعلة المذكورة واختصاص صورة التخصيص بمعنى يمنع ثبوت الحكم من جهة الشرع والأحاديث وإلا كانت العلة فاسدة .

                والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب ; فإن المقصود من الأثمان أن تكون معيارا للأموال يتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال ولا [ ص: 472 ] يقصد الانتفاع بعينها . فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية واشتراط الحلول والتقابض فيها هو تكميل لمقصودها من التوسل بها إلى تحصيل المطالب ; فإن ذلك إنما يحصل بقبضها . لا بثبوتها في الذمة ; مع أنها ثمن من طرفين فنهى الشارع أن يباع ثمن بثمن إلى أجل . فإذا صارت الفلوس أثمانا صار فيها المعنى فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل .

                كما أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن بيع الكالئ بالكالئ } وهو المؤخر بالمؤخر ولم ينه عن بيع دين ثابت في الذمة يسقط إذا بيع بدين ثابت في الذمة يسقط ; فإن هذا الثاني يقتضي تفريغ كل واحدة من الذمتين ولهذا كان هذا جائزا في أظهر قولي العلماء كمذهب مالك وأبي حنيفة ; وغيرهما ; بخلاف ما إذا باع دينا يجب في الذمة ويشغلها بدين يجب في الذمة كالمسلم إذا أسلم في سلعة ولم يقبضه رأس المال فإنه يثبت في ذمة المستسلف دين السلم وفي ذمة المسلف رأس المال ولم ينتفع واحد منهما بشيء . ففيه شغل ذمة كل واحد منهما بالعقود التي هي وسائل إلى القبض وهو المقصود بالعقد . كما أن السلع هي المقصودة بالأثمان فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل كما لا يباع كالئ بكالئ ; لما في ذلك من الفساد والظلم المنافي لمقصود الثمنية ومقصود العقود ; بخلاف كون المال موزونا ومكيلا ; فإن هذا صفة لما [ ص: 473 ] به يقدر ويعلم قدره . ولأن في ذلك معنى يناسب تحريم التفاضل فيه .

                فإذا قيل : المكيلات والموزونات متماثلة وعلة التحريم نفي التماثل . قيل : العاقل لا يبيع شيئا بمثله إلى أجل ولكن قد يقرض الشيء . ليأخذ مثله بعد حين . والقرض هو تبرع من جنس العارية كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم { منيحة ورق أو منيحة ذهب } . فالمال إذا دفع إلى من يستوفي منفعته مدة ثم يعيده إلى صاحبه كان هذا تبرعا من صاحبه بنفعه تلك المدة وإن كان لكل نوع اسم خاص . فيقال في النخلة : عارية ويقال فيما يشرب لبنه منيحة . ثم قد يعيد إليه عين المال إن كان مقصودا وإلا أعاد مثله . والدراهم لا تقصد عينها فإعادة المقترض نظيرها كما يعيد المضارب نظيرها . وهو رأس المال . ولهذا سمي قرضا ولهذا لم يستحق المقرض إلا نظير ماله وليس له أن يشترط الزيادة عليه في جميع الأموال باتفاق العلماء . والمقرض يستحق مثل قرضه في صفته كما يستحق مثله في الغصب والإتلاف ومثل هذا لا يبيعه عاقل وإنما يباع الشيء بمثله فيما إذا اختلفت الصفة .

                والشارع طلب إلغاء الصفة في الأثمان فأراد أن تباع الدراهم بمثل وزنها ولا ينظر إلى اختلاف الصفات مع خفة وزن كل درهم . كما يفعله من يطلب دراهم خفافا إما ليعطيها للظلمة وإما ليقضي بها [ ص: 474 ] وأما لغير ذلك فيبدل أقل منها عددا وهو مثلها وزنا فيريد المربي أن لا يعطيه ذلك إلا بزيادة في الوزن فهذا إخراج الأثمان عن مقصودها وهذا مما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم بلا ريب بخلاف مواضع تنازع العلماء فيها ليس هذا موضع تفصيلها . والله أعلم .




                الخدمات العلمية