الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وترى الملائكة حافين أي محدقين من الحفاف بمعنى الجانب جمع حاف كما قال الأخفش ، وقال الفراء : لا يفرد فقيل : أراد أن المفرد لا يكون حافا إذ الإحداق والإحاطة لا يتصور بفرد وإنما يتحقق بالجمع ، وقيل : أراد أنه لم يرد استعمال مفرده . وأورد على الأول أن الإحاطة بالشيء بمعنى محاذاة جميع جوانبه فتصور في الواحد بدورانه حول الشيء فإنه حينئذ يحاذي جميع [ ص: 36 ] جوانبه تدريجا فيكون الحفوف بمعنى الدوران حوله أو يراد بكونه حافا أنه جزء من الحاف وله مدخل في الحفوف ، ولو صح ما ذكر لم يصح أن يقال : طائف أو محدق أو محيط أو نحوه مما يدل على الإحاطة . وأورد على الثاني أنا لم نجد ورود جمع سالم لم يرد استعمال مفرده فبعد ورود حافين الظاهر ورود حاف كما لا يخفى ، والخطاب لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم ، وجوز أن يكون لكل من تصح منه الرؤية كأنه قيل : وترى أيها الرائي الملائكة حافين من حول العرش أي حول العرش على أن ( من ) مزيدة على رأي الأخفش وهو الأظهر ، وقيل : هي للابتداء - فحول العرش - مبتدأ الحفوف وكأن الحفوف حينئذ للخلق ، وفي بعض الآثار ما هو ناطق بذلك ، وفيها ما يدل على أن العرش يوم فصل القضاء يكون في الأرض حيث يشاء الله تعالى والأرض يومئذ غير هذه الأرض ، على أن أحوال يوم القيامة وشؤون الله تعالى وراء عقولنا وسبحان من لا يعجزه شيء ، والظاهر أن الرؤية بصرية - فحافين - حال أولى وقوله تعالى : يسبحون بحمد ربهم حال ثانية ، ويجوز أن يكون حالا من ضمير حافين المستتر ، وجوز كون الرؤية علمية - فحافين - مفعول ثان وجملة ( يسبحون ) حال من ( الملائكة ) أو من ضميرهم في حافين والباء في ( بحمد ) للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي ينزهونه تعالى عما لا يليق به ملتبسين بحمده ، وحاصله يذكرون الله تعالى بوصفي جلاله وإكرامه تبارك وتعالى ، وهذا الذكر إما من باب التلذذ فإن ذكر المحبوب من أعظم لذائذ المحب كما قيل :


                                                                                                                                                                                                                                      أجد الملامة في هواك لذيذة حبا لذكرك فليلمني اللوم



                                                                                                                                                                                                                                      أو من باب الامتثال ويدعي أنهم مكلفون ، ولا يسلم أنهم خارجون عن خطة التكليف أو يخرجون عنها يوم القيامة ، نعم لا يرون ذلك كلفة وإن أمروا به .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي حديث طويل جدا أخرجه عبد بن حميد وعلي بن سعيد في كتاب الطاعة والعصيان . وأبو يعلى وأبو الحسن القطان في المطولات . وأبو الشيخ في العظمة . والبيهقي في البعث والنشور عن أبي هريرة «فبينما نحن وقوف - أي في المحشر - إذ سمعنا حسا من السماء شديدا فينزل أهل سماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم ثم تنزل أهل السماء الثالثة بمثلي من نزل من الملائكة ومثلي من فيها من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف إلى السماوات السبع ثم ينزل الجبار في ظلل من الغمام والملائكة تحمل عرشه يومئذ ثمانية وهم اليوم أربعة أقدامهم على تخوم الأرض السفلى والأرضون والسماوات إلى حجزهم والعرش على مناكبهم لهم زجل بالتسبيح فيقولون : سبحان ذي العزة والجبروت سبحان ذي الملك والملكوت سبحان الحي الذي لا يموت سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبحان ربنا الأعلى الذي يميت الخلائق ولا يموت فيضع عرشه حيث يشاء من الأرض ثم يهتف سبحانه بصوته فيقول عز وجل : «يا معشر الجن والإنس إني قد أنصت لكم منذ يوم خلقتكم إلى يومكم هذا أسمع قولكم وأبصر أعمالكم فانصتوا إلي فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه » الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 37 ] وقضي بينهم بالحق أي بين العباد كلهم بإدخال بعضهم الجنة وبعضهم النار فإن القضاء المعروف يكون بينهم ، ولوضوح ذلك لا يضر كون الضمير لغير الملائكة مع أن ضمير ( يسبحون ) لهم إذ التفكيك لا يمتنع مطلقا كما توهم ، وقيل : ضمير ( بينهم ) للملائكة واستظهره أبو حيان ، وثوابهم وإن كانوا كلهم معصومين يكون على حسب تفاضل أعمالهم فيختلف تفاضل مراتبهم فإقامة كل في منزلته حسب عمله هو القضاء بينهم بالحق .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل الحمد لله رب العالمين أي على ما قضى بيننا بالحق ، والقائل قيل : هم المؤمنون المقضي لهم لا ما يعمهم والمقضي عليهم ، وحمدهم الأول على إنجاز وعده سبحانه وإيراثهم الأرض يتبوؤون من الجنة ما شاءوا ، وحمدهم هذا على القضاء بالحق بينهم فلا تكرار .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الطيبي : إن الأول للتفصلة بين الفريقين بحسب الوعد والوعيد والسخط والرضوان ، والثاني للتفرقة بينهما بحسب الأبدان ففريق في الجنة وفريق في السعير والأول أحسن ، وقيل : هم الملائكة يحمدونه تعالى على قضائه سبحانه بينهم بالحق وإنزال كل منهم منزلته ، وعليه ليس في الحمدين شائبة تكرار لتغاير الحامدين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : ( قيل ) دون قالوا لتعينهم وتعظيمهم ، وجوز كون القائل جميع العباد منعمهم ومعذبهم وكأنه أريد أن الحمد من عموم الخلق المقضي بينهم هنا إشارة إلى التمام وفصل الخصام كما يقوله المنصرفون من مجلس حكومة ونحوها ، فيحمده المؤمنون لظهور حقهم وغيرهم لعدله واستراحتهم من انتظار الفصل ، ففي بعض الآثار أنه يطول الوقوف في المحشر على العباد حتى إن أحدهم ليقول : رب أرحني ولو إلى النار ، وقيل : إنهم يحمدونه إظهارا للرضا والتسليم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية : هذا الحمد ختم للأمر يقال عند انتهاء فصل القضاء أي إن هذا الحاكم العدل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه وإكمال قضائه ، ومن هذه الآية جعلت ( الحمد لله رب العالمين ) خاتمة المجالس في العلم ، هذا والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على رسوله محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية