الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في القافة

                                                                                                          2129 حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال ألم تري أن مجززا نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال هذه الأقدام بعضها من بعض قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وقد روى ابن عيينة هذا الحديث عن الزهري عن عروة عن عائشة وزاد فيه ألم تري أن مجززا مر على زيد بن حارثة وأسامة بن زيد قد غطيا رءوسهما وبدت أقدامهما فقال إن هذه الأقدام بعضها من بعض وهكذا حدثنا سعيد بن عبد الرحمن وغير واحد عن سفيان بن عيينة هذا الحديث عن الزهري عن عروة عن عائشة وهذا حديث حسن صحيح وقد احتج بعض أهل العلم بهذا الحديث في إقامة أمر القافة [ ص: 273 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 273 ] ( باب ما جاء في القافة ) القافة : جمع قائف ، قال الجزري في النهاية : القائف الذي يتتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه ، والجمع القافة ، يقال فلان يقوف الأثر ويقتافه قيافة ، مثل قفا الأثر واقتفاه انتهى .

                                                                                                          قوله : ( دخل عليها مسرورا ) أي فرحانا ( تبرق ) بفتح التاء وضم الراء ، أي تضيء وتستنير من السرور والفرح ( أسارير وجهه ) قال في النهاية : الأسارير الخطوط التي تجتمع في الجبهة وتتكسر واحدها سر أو سرر ، وجمعها أسرار وأسرة ، وجمع الجمع أسارير انتهى ( ألم تري ) بحذف النون أي ألم تعلمي يعني هذا مما يتعين أن تعلمي فاعلمي ( مجززا ) بضم الميم وكسر الزاي الثقيلة ، وحكي فتحها وبعدها زاي أخرى ، هذا هو المشهور ، ومنهم من قال بسكون الحاء المهملة وكسر الراء ثم زاي وهو ابن الأعور بن جعدة المدلجي نسبة إلى مدلج بن مرة بن عبد مناف بن كنانة وكانت القيافة فيهم وفي بني أسد والعرب تعترف لهم بذلك وليس ذلك خاصا بهم على الصحيح ، وقد أخرج يزيد بن هارون في الفرائض بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب أن عمر كان قائفا أورده في قصته ، وعمر قرشي ليس مدلجيا ولا أسديا لا أسد قريش ولا أسد خزيمة ، وكان مجززا عارفا بالقيافة ، وذكره ابن يونس فيمن شهد فتح مصر وقال لا أعلم له رواية كذا في الفتح .

                                                                                                          ( نظر آنفا ) بالمد ويجوز القصر أي قريبا أو أقرب وقت ( فقال ) أي مجزز المدلجي ( هذه الأقدام بعضها من بعض ) قال النووي رحمه الله : وكانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه أسود شديد السواد وكان زيد أبيض ، كذا قاله أبو داود عن أحمد بن صالح ، فلما قضى هذا القائف بإلحاق نسبه مع اختلاف اللون وكانت الجاهلية تعتمد قول القائف فرح النبي صلى الله عليه وسلم لكونه زاجرا لهم عن الطعن في النسب ، قال القاضي : قال غير أحمد بن صالح ، كان زيد أزهر اللون وأم أسامة هي أم أيمن واسمها بركة وكانت حبشية سوداء انتهى ، وقال الحافظ في الفتح : قال عياض : لو صح أن أم أيمن كانت سوداء لم ينكروا سواد ابنها أسامة لأن السوداء قد تلد من الأبيض أسود ، قال الحافظ : يحتمل أنها كانت صافية فجاء أسامة شديد السواد فوقع الإنكار لذلك انتهى .

                                                                                                          قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) وأخرجه البخاري في صفة النبي صلى الله عليه وسلم والمناقب [ ص: 274 ] والفرائض ، ومسلم في النكاح ، وأبو داود والنسائي في الطلاق .

                                                                                                          قوله : ( وقد غطيا ) من التغطية أي سترا ( رءوسهما ) أي بقطيفة كما في رواية ( وبدت ) أي ظهرت ، قال الحافظ : وفي هذه الزيادة دفع توهم من يقول لعله حاباهما بذلك لما عرف من كونهم كانوا يطعنون في أسامة انتهى .

                                                                                                          قوله : ( وقد احتج بعض أهل العلم بهذا الحديث في إقامة أمر القافة ) قال العيني في العمدة : في الحديث إثبات الحكم بالقافة ، وممن قال به أنس بن مالك وهو أصح الروايتين عن عمر ، وبه قال عطاء ومالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وأبو ثور ، وقال الكوفيون والثوري وأبو حنيفة وأصحابه : الحكم بها باطل لأنها حدس ولا يجوز ذلك في الشريعة ، وليس في حديث الباب حجة في إثبات الحكم بها ; لأن أسامة قد كان ثبت نسبه قبل ذلك ولم يحتج الشارع في إثبات ذلك إلى قول أحد ، وإنما تعجب من إصابة مجزز ، كما يتعجب من ظن الرجل الذي يصيب ظنه حقيقة الشيء الذي ظنه ولا يجب الحكم بذلك ، وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنكار عليه لأنه لم يتعاط بذلك إثبات ما لم يكن ثابتا ، وقد قال تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم انتهى ، وقال الشوكاني في النيل ص 214 ج 6 : وما قيل من أن حديث مجزز لا حجة فيه لأنه إنما يعرف القائف بزعمه أن هذا الشخص من ماء ذاك لا أنه طريق شرعي فلا يعرف إلا بالشرع ، فيجاب بأن في استبشاره صلى الله عليه وسلم من التقرير ما لا يخالف فيه مخالف ، ولو كان مثل ذلك لا يجوز في الشرع لقال له إن ذلك لا يجوز ، لا يقال إن أسامة قد ثبت فراش أبيه شرعا وإنما لما وقعت القالة بسبب اختلاف اللون وكان قول المدلجي المذكور دافعا لها لاعتقادهم فيه الإصابة وصدق المعرفة استبشر صلى الله عليه وسلم بذلك ، فلا يصح التعلق بمثل هذا التقرير على إثبات أصل النسب لأنا نقول لو كانت القافة لا يجوز العمل بها إلا في مثل هذه المنفعة مع مثل أولئك الذين قالوا مقالة السوء لما قرره صلى الله عليه وسلم على قوله : هذه الأقدام بعضها من بعض ، وهو في قوة هذا ابن هذا ، فإن ظاهره أنه تقرير للإلحاق بالقافة مطلقا لا إلزام للخصم بما يعتقده ، ولا سيما النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه إنكار كونها طريقا يثبت بها النسب حتى يكون تقريره لذلك من باب التقرير على معنى كافر إلى كنية ونحوه مما عرف منه صلى الله عليه وسلم [ ص: 275 ] إنكاره قبل السكوت عنه ، وقد أطال الحافظ ابن القيم الكلام في الحكم بالقافة في زاد المعاد ، وقال في أثناء كلامه : قال سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن سعيد بن سليمان بن يسار عن عمر في امرأة وطئها رجلان في طهر ، فقال القائف قد اشتركا فيه جميعا فجعله بينهما ، قال الشعبي : وعلي يقول هو ابنهما وهما أبواه يرثانه ، ذكره سعيد أيضا ، وروى الأثرم بإسناده عن سعيد بن المسيب في رجلين اشتركا في طهر امرأة فحملت فولدت غلاما يشبههما ، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فدعا القافة فنظروا فقالوا نراه يشبههما فألحقه بهما وجعله يرثهما ويرثانه ، ولا يعرف قط في الصحابة من خالف عمر وعليا رضي الله عنهما في ذلك ، بل حكم عمر بهذا في المدينة وبحضرة المهاجرين والأنصار فلم ينكر منهم منكر .




                                                                                                          الخدمات العلمية