الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما فهم من قوله: وكذب بالصدق إذ جاءه أن المشركين يكذبونه؛ وكان من طبع الآدمي الاهتمام بمثل ذلك؛ ولا سيما إذا كان المكذب كثيرا وقويا؛ وتقرر أنه - سبحانه - الحكم العدل بين المتخاصمين؛ وغيرهم؛ في الدنيا؛ والآخرة؛ ولزم كل سامع الإقرار بالآخرة؛ وبشر المحسنين وحذر المسيئين؛ وكان من المعلوم أنهم يحذرونه آلهتهم كما يحذرهم إلهه؛ حسن كل الحسن قوله - مقرا للكفاية غاية الإقرار؛ ومنكرا [ ص: 509 ] لنفيها كل الإنكار -: أليس الله ؛ أي: الجامع لصفات العظمة كلها؛ المنعوت بنعوت الكمال من الجلال والجمال؛ وأكد المراد بزيادة الجار؛ لما عندهم من الجزم بأنهم غالبون؛ فقال: بكاف ؛ وحقق المناط بالإضافة في قوله: عبده ؛ أي: الخالص له؛ الذي لم يشرك به أصلا؛ كما تقدم في المثل؛ ممن كذبه؛ وقصد مساءته؛ فينصره عليهم؛ حتى يظهر دينه؛ ويعلي أمره؛ ويغنيه عن أن يحتاج إلى غيره؛ أو يجنح إلى سواه؛ باعتقاد أن في يده شيئا يستقل به؛ وهذا لا ينافي السعي في الأسباب؛ مع اعتقاد أنها بيد الله؛ فإن شاء ربط بها المسببات؛ وإن شاء أعقمها؛ بل السعي أكمل؛ لأن ترتيب الأسباب بوضع الحكيم؛ فالسعي في طرحها ينافي وضع الحكمة؛ وقرأ حمزة ؛ والكسائي وأبو جعفر : "عباده"؛ بالجمع؛ بمعنى: الرسول وأتباعه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الجواب قطعا: بلى؛ إنه ليكفي من يشاء؛ والأصنام الممثلون بالشركاء المتشاكسين لا يكفون من تولاهم؛ بنى على ذلك حالا عجيبا من أحوالهم؛ فقال - معجبا منهم؛ ومتهكما بهم: ويخوفونك ؛ أي: عباد الأصنام؛ يعلمون أن الله يكفي من أراد؛ وأن الأصنام لا كفاية عندها بوجه؛ والحال أنهم يخوفونك؛ ولما كان الخوف ممن له اختيار؛ فإن كان عاقلا كان أقوى لمخالفته؛ وكان من المعلوم بديهة أنه لا اختيار لهم؛ [ ص: 510 ] فضلا عن العقل؛ قال - تهكما بهم؛ بالتعبير بما يعبر به عن الذكور العقلاء؛ لكونهم ينزلونهم بالعبادة وغيرها منزلة العقلاء؛ مع اعترافهم بأنهم لا عقل لهم؛ فصاروا بذلك ضحكة؛ وشهرة بين الناس -: بالذين ؛ وبين حقارتهم بقوله: من دونه ؛ وهم معبوداتهم؛ ضلالا عن المحجة؛ فيقولون: إنا نخشى عليك أن يخبلك آلهتنا؛ كما قالت عاد لهود - عليه السلام -: "إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء"؛ وسيأتي التعبير عنهم بالتأنيث؛ زيادة في توبيخهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان من الحق الواضح كالشمس أن ما قالوه لا يقوله عاقل؛ وكان التقدير: "فقد أضلهم الله إهانة لهم؛ وهداك إكراما لك"؛ بين أنه - سبحانه - قسرهم على ذلك؛ ليكون إضلاله لهم آية كما أن هداه لمن هداه آية؛ فقال - مخففا عنه - صلى الله عليه وسلم - في إذهاب نفسه عليهم حسرات؛ دامغا للقدرية -: ومن يضلل الله ؛ أي: الذي له الأمر كله فلا يرد أمره؛ فما له ؛ لأجل أنه هو الذي أضله؛ من هاد ؛ أي: فخفض من حزنك عليهم؛

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية