الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الجنب يمر في المسجد قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون [ ص: 165 ] ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا قال أبو بكر : قد اختلف في المراد من السكر بهذه الآية ، فقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة : " السكر من الشراب " . وقال مجاهد والحسن : " نسخها تحريم الخمر " . وقال الضحاك : " المراد به سكر النوم خاصة " .

فإن قيل : كيف يجوز أن ينهى السكران في حال سكره وهو في معنى الصبي في نقص عقله ؟ قيل له : يحتمل أن يريد السكران الذي لم يبلغ نقصان عقله إلى حد يزول التكليف معه ، ويحتمل أن يكونوا نهوا عن التعرض للسكر إذا كان عليهم فرض الصلاة ، ويجوز أن يكون النهي إنما دل على أن عليهم أن يعيدوها في حال الصحو إذا فعلوها في حال السكر ، وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة بالآية في حال نزولها

فإن قال قائل : إذا ساغ تأويل من تأولها على السكران الذي لم يزل عنه التكليف فكيف يجوز أن يكون منهيا عن فعل الصلاة في هذه الحال مع اتفاق المسلمين على أنه مأمور بفعل الصلاة في هذه الحال ؟ قيل له : قد روي عن الحسن وقتادة أنه منسوخ ، ويحتمل إن لم يكن منسوخا أن يكون النهي متوجها إلى فعل الصلاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أو في جماعة . قال أبو بكر : والصحيح من التأويل في معنى السكر أنه السكر من الشراب من وجهين :

أحدهما : أن النائم ومن خالط عينه النوم لا يسمى سكران ، ومن سكر من الشراب يسمى سكران حقيقة ، فوجب حمل اللفظ على الحقيقة ولا يجوز صرفه عنها إلى المجاز إلا بدلالة .

والثاني : ما روى سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن عن علي قال : " دعا رجل من الأنصار قوما فشربوا من الخمر ، فتقدم عبد الرحمن بن عوف لصلاة المغرب فقرأ : قل يا أيها الكافرون فالتبس عليه فأنزل الله تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس ، في قوله تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وقال في سورة النساء : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ثم نسختها هذه الآية : يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام الآية . قال أبو عبيد : وحدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير قال : وقوله تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون قال : " كانوا [ ص: 166 ] لا يشربونها عند الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها " . قال أبو عبيد : حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال : قال عمر : اللهم بين لنا في الخمر فنزلت : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، وذكر الحديث . قال أبو عبيد : وحدثنا هشيم قال : أخبرنا مغيرة عن أبي رزين قال : " شربت الخمر بعد الآية التي في سورة البقرة والتي في سورة النساء ، وكانوا يشربونها حتى تحضر الصلاة فإذا حضرت الصلاة تركوها ، ثم حرمت في المائدة " . قال أبو بكر : فأخبر هؤلاء أن المراد السكر من الشراب ، وأخبر ابن عباس وأبو رزين أنهم تركوا شربها بعد نزول الآية عند الصلاة وشربوها في غير أوقات الصلوات ؛ ففي هذا دلالة على أنهم عقلوا من قوله تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى النهي عن شربها في الحال التي يكونون فيها سكارى عند لزوم فرض الصلاة ، وهذا يدل على أن قوله تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى إنما أفاد النهي عن شربها في أوقات الصلوات ، وكان معناه : لا يكن منكم شرب تصيرون به إلى حال السكر عند أوقات الصلوات فتصلوا وأنتم سكارى وذلك أنهم لما كانوا متعبدين بفعل الصلوات في أوقاتها منهيين عن تركها ، قال تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وقد علمنا أنه لم ينسخ بذلك فرض الصلاة ، كان في مضمون هذا اللفظ النهي عما يوجب السكر عند أوقات الصلوات ، كما أنه لما نهينا عن فعل الصلاة مع الحدث لقوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يقبل الله صلاة بغير طهور .

وكما قال تعالى : ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا كان ذلك نهيا عن ترك الطهارة ولم يكن نهيا عن فعل الصلاة . ولم يوجب كون الإنسان جنبا أو محدثا سقوط فرض الصلاة ؛ وإنما نهي عن فعلها في هذه الحال ، وهو مأمور مع ذلك بتقديم الطهارة لها ؛ كذلك النهي عن الصلاة في حال السكر إنما دل على حظر شرب يوجب السكر قبل الصلاة ، وفرض الصلاة قائم عليه .

فهذا التأويل يدل على ما روي عن ابن عباس وأبي رزين ، وظاهر الآية وفحواها يقتضي ذلك على الوجه الذي بينا . وهذا التأويل لا ينافي ما قدمنا ذكره عن السلف في حظر الصلاة عند السكر ؛ لأنه جائز أن يكونوا نهوا عن شرب يقتضي كونه سكران عند حضور الصلاة ، فيكون ذلك حظرا قائما ، فإن اتفق أن يشرب حتى أنه كان سكران عند حضور الصلاة كان منهيا عن فعلها مأمورا بإعادتها في حال الصحو ، أو يكون النهي مقصورا على فعلها مع النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 167 ] أو في جماعة ؛ وهذه المعاني كلها صحيحة جائزة يحتملها لفظ الآية .

وقوله تعالى : حتى تعلموا ما تقولون يدل على أن السكران الذي منع من الصلاة هو الذي قد بلغ به السكر إلى حال لا يدري ما يقول ، وأن السكران الذي يدري ما يقول لم يتناوله النهي عن فعل الصلاة ؛ وهذا يشهد للتأويل الذي ذكرنا من أن النهي إنما انصرف إلى الشرب لا إلى فعل الصلاة ؛ لأن السكران الذي لا يدري ما يقول لا يجوز تكليفه في هذه الحال كالمجنون والنائم والصبي الذي لا يعقل ، والذي يعقل ما يقول لم يتوجه إليه النهي ؛ لأن في الآية إباحة فعل الصلاة إذا علم ما يقول ؛ وهذا يدل على أن الآية إنما حظرت عليه الشرب لا فعل الصلاة في حال السكر الذي لا يعلم ما يقول فيه ؛ إذ غير جائز تكليف السكران الذي لا يعقل .

وهي تدل أيضا على أن السكر الذي يتعلق به الحكم هو الذي لا يعقل صاحبه ما يقول ، وهذا يدل على صحة قول أبي حنيفة في السكر الموجب للحد " أنه هو الذي لا يعرف فيه الرجل من المرأة " ومن لا يعقل ما يقول لا يعرف الرجل من المرأة وقوله تعالى :حتى تعلموا ما تقولون يدل على فرض القراءة في الصلاة ؛ لأنه منعه من الصلاة لأجل عدم إقامة القراءة فيها ، فلولا أنها من أركانها وفروضها لما منع من الصلاة لأجلها .

فإن قيل : لا دلالة في ذلك على وجوب القراءة فيها ؛ وذلك لأن قوله تعالى : حتى تعلموا ما تقولون قد دل على أنه ممنوع منها في الحال التي لا يعلم ما يقول ، ولم يذكر القراءة وإنما ذكر نفي العلم بما يقول ، وهذا على سائر الأقوال والكلام ، ومن صار بهذه الحال من السكر لم يصح له إحضار نية الصلاة ولا فعل سائر أركانها ، فإنما منع من الصلاة من كانت هذه حاله ؛ لأنه لا تصح منه نية الصلاة ولا سائر أفعالها ، ومع ذلك فلا يعلم أنه طاهر غير محدث .

قيل له : هذا على ما ذكرت في أن من كانت هذه فلا يصح منه فعل الصلاة على سائر شرائطها ، إلا أن اختصاصه القول بالذكر دون غيره من أمور الصلاة وأحوالها يدل على أن المراد به قول مفعول في الصلاة وأنه متى كان من السكر على حال لم يمكنه إقامة القراءة فيها لم يصح له فعلها لأجل عدم القراءة ، وأن وجود القراءة فيها من فروضها وشرائطها ، وهذا مثل قوله : وأقيموا الصلاة في إفادته أن في الصلاة قياما مفروضا ، ومثل قوله : واركعوا مع الراكعين في دلالته على فرض الركوع في الصلاة .

التالي السابق


الخدمات العلمية