الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يجوز أن يصوم أيام التشريق صوما غير صوم التمتع ، فإن صام لم يصح صومه ، لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن صيام ستة أيام ، يوم الفطر ، ويوم النحر ، وأيام التشريق ، واليوم الذي يشك فيه أنه من رمضان } وهل يجوز للمتمتع صومه ؟ فيه قولان ، قال في القديم : يجوز ، لما روي عن ابن عمر وعائشة أنهما قالا : " لم يرخص في أيام التشريق إلا لمتمتع لم يجد الهدي " وقال في الجديد : لا يجوز ; لأن كل يوم لا يجوز فيه صوم غير المتمتع لم يجز فيه صوم التمتع كيوم العيد ) .

                                      [ ص: 484 ]

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 484 ] الشرح حديث أبي هريرة هذا رواه البيهقي بإسناد ضعيف عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم " { نهى عن صيام قبل رمضان بيوم والأضحى والفطر وأيام التشريق ثلاثة بعد يوم النحر } هذا لفظه وضعف إسناده ، ويغني عنه حديث نبيشة - بضم النون وفتح الباء الموحدة ثم ياء مثناة تحت ساكنة ثم شين معجمة - الصحابي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى } رواه مسلم . وعن كعب بن مالك " { أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه وأنس بن الحدثان أيام التشريق فنادى أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، وأيام التشريق أيام أكل وشرب } رواه مسلم . وعن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام ، وهي أيام أكل وشرب } رواه أبو داود والترمذي والنسائي قال الترمذي : حديث حسن صحيح وعن عمرو بن العاص قال : { هذه الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بإفطارها وينهى عن صيامها . قال مالك : هي أيام التشريق } رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم . وأما ما ذكره المصنف عن ابن عمر وعائشة في صوم المتمتع فصحيح ، رواه البخاري في صحيحه ، ولفظه عن عائشة وابن عمر قالا : " لم يرخص في أيام التشريق أن يضمن إلا لمن لم يجد الهدي " وفي رواية للبخاري عنهما قالا : " الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى يوم عرفة ، فإن لم يجد هديا ولم يصم صام أيام منى " فالرواية الأولى مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنها بمنزلة قول الصحابي : " أمرنا بكذا ونهينا عن كذا ورخص لنا في كذا " وكل هذا وشبهه مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة قوله : قال صلى الله عليه وسلم كذا .

                                      وقد سبق بيان هذا في مقدمة هذا الشرح ، ثم في مواضع . وأيام التشريق هي الثلاثة التي بعد النحر ويقال لها : أيام منى ; لأن الحجاج يقيمون فيها بمنى ، واليوم الأول يقال له : يوم القر - بفتح القاف - لأن الحجاج يقرون فيه بمنى ، والثاني يوم النفر الأول ; لأنه يجوز النفر فيه لمن تعجل ، والثالث يوم النفر الثاني . وسميت أيام التشريق ; لأن الحجاج يشرقون فيها [ ص: 485 ] لحوم الأضاحي والهدايا - أي ينشرونها ويقددونها - وأيام التشريق هي الأيام المعدودات .

                                      ( أما حكم المسألة ) ففي صوم أيام التشريق قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أحدهما ) وهو الجديد لا يصح صومها لا لمتمتع ولا غيره ، هذا هو الأصح عند الأصحاب .

                                      ( والثاني ) وهو القديم يجوز للمتمتع العادم الهدي صومها عن الأيام الثلاثة الواجبة في الحج ، فعلى هذا هل يجوز لغير المتمتع أن يصومها ؟ فيه وجهان مشهوران في طريقة الخراسانيين وذكرهما جماعات من العراقيين ، منهم القاضي أبو الطيب في المجرد والبندنيجي والمحاملي في كتابيه المجموع والتجريد وآخرون منهم ( أصحهما ) عند جميع الأصحاب لا يجوز ، وبه قطع المصنف وكثيرون أو الأكثرون ; لعموم الأحاديث في منع صومها ، وإنما رخص للمتمتع ( والثاني ) يجوز . قال المحاملي في كتابيه وصاحب العدة : هذا القائل بالجواز هو أبو إسحاق المروزي قال أصحابنا الذين حكوا هذا الوجه : " إنما يجوز في هذه الأيام صوم له سبب من قضاء أو نذر أو كفارة أو تطوع له سبب " فأما تطوع لا سبب له فلا يجوز فيها بلا خلاف . كذا نقل اتفاق الأصحاب عليه القاضي أبو الطيب والمحاملي والسرخسي وصاحب العدة وآخرون .

                                      وأكثر القائلين قالوا : هو نظير الأوقات المنهي عن الصلاة فيها ، فإنه يصلي فيها ما لها سبب دون ما لا سبب لها . قال السرخسي : مبنى الخلاف على أن إباحتها للمتمتع للحاجة ، أو لكونها سببا . وفيه خلاف لأصحابنا من علل بالحاجة ، خصه بالمتمتع فلم يجوزها لغيره ومن علل بالسبب جوز صومها عن كل صوم له سبب دون ما لا سبب له ، قال السرخسي : وعلى هذا الوجه لو نذر صومها بعينها فهو كنذر صوم يوم الشك ، وسبق بيانه ، هذا هو المشهور في المذهب أن الوجه القائل بجواز الصوم في أيام التشريق لغير المتمتع مختص بصوم له سبب ، ولا يصح فيها ما لا سبب له بالاتفاق . [ ص: 486 ] وقال إمام الحرمين : اختلف أصحابنا في التفريع على القديم ، فقال بعضهم : لا تقبل هذه غير صوم المتمتع لضرورة تختص به ، وقال آخرون . إنها كيوم الشك ، ثم ذكر متصلا به في يوم الشك أنه إن صامه بلا سبب فهو منهي عنه ، وفي صحته وجهان ، وقد سبق بيان ذلك .

                                      ( واعلم ) أن الأصح عند الأصحاب هو القول الجديد أنها لا يصح فيها صوم أصلا ، لا للتمتع ولا لغيره ( والأرجح ) في الدليل صحتها للتمتع وجوازها له ، لأن الحديث في الترخيص له صحيح كما بيناه وهو صريح في ذلك فلا عدول عنه . وأما قول صاحب الشامل في كتاب الحج : إنه حديث ضعيف ، فباطل مردود ; لأنه رواه من جهة ضعيفة وضعفه بذلك السبب ، والحديث صحيح ثابت في صحيح البخاري بإسناده المتصل من غير الطريق الذي ذكره صاحب الشامل ، وإنما ذكرت كلام صاحب الشامل لئلا يغتر به .

                                      فرع في مذاهب العلماء في صوم أيام التشريق . قد ذكرنا مذهبنا فيها ، وأن الجديد أنه لا يصح فيها صوم ( والقديم ) صحته لمتمتع لم يجد الهدي ، وممن قال به من السلف العلماء بامتناع صومها للمتمتع ولغيره علي بن أبي طالب وأبو حنيفة وداود وابن المنذر ، وهو أصح الروايتين عن أحمد وحكى ابن المنذر جواز صومها للمتمتع وغيره عن الزبير بن العوام وابن عمر وابن سيرين ، وقال ابن عمر وعائشة والأوزاعي ومالك وأحمد وإسحاق في رواية عنه : يجوز للمتمتع صومها . .




                                      الخدمات العلمية