الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم .

هذا تخلص إلى الغرض الذي افتتحت به السورة من قوله يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون إلى قوله كأنهم بنيان مرصوص . فبعد أن ضربت لهم الأمثال ، وانتقل الكلام من مجال إلى مجال ، أعيد خطابهم هنا بمثل ما خوطبوا به بقوله يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، أي هل أدلكم على أحب العمل إلى الله لتعملوا به كما طلبتم إذ قلتم لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا به فجاءت السورة في أسلوب الخطابة .

والظاهر أن الضمير المستتر في ( أدلكم ) عائد إلى الله تعالى لأن ظاهر الخطاب أنه موجه من الله تعالى إلى المؤمنين . ويجوز أن يجعل الضمير إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - على تقدير قول محذوف وعلى اختلاف الاحتمال يختلف موقع قوله الآتي ( وبشر المؤمنين ) .

والاستفهام مستعمل في العرض مجازا لأن العارض قد يسأل المعروض عليه ليعلم رغبته في الأمر المعروض كما يقال : هل لك في كذا ؟ أو هل لك إلى كذا ؟ [ ص: 194 ] والعرض هنا كناية عن التشويق إلى الأمر المعروض ، وهو دلالته إياهم على تجارة نافعة . وألفاظ الاستفهام تخرج عنه إلى معان كثيرة هي من ملازمات الاستفهام كما نبه عليه السكاكي في المفتاح ، وهي غير منحصرة فيما ذكره .

وجيء بفعل ( أدلكم ) لإفادة ما يذكر بعده من الأشياء التي لا يهتدى إليها بسهولة .

وأطلق على العمل الصالح لفظ التجارة على سبيل الاستعارة لمشابهة العمل الصالح التجارة في طلب النفع من ذلك العمل ومزاولته والكد فيه ، وقد تقدم في قوله تعالى فما ربحت تجارتهم في سورة البقرة .

ووصف التجارة بأنها تنجي من عذاب أليم ، تجريد للاستعارة لقصد الصراحة بهذه الفائدة لأهميتها وليس الإنجاء من العذاب من شأن التجارة فهو من مناسبات المعنى الحقيقي للعمل الصالح .

وجملة تؤمنون بالله ورسوله مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ذكر الدلالة مجمل والتشويق الذي سبقها مما يثير في أنفس السامعين التساؤل عن هذا الذي تدلنا عليه وعن هذه التجارة .

وإذ قد كان الخطاب لقوم مؤمنين فإن فعل ( تؤمنون بالله ) مع ( وتجاهدون ) مراد به تجمعون بين الإيمان بالله ورسوله وبين الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم تنويها بشأن الجهاد . وفي التعبير بالمضارع إفادة الأمر بالدوام على الإيمان وتجديده في كل آن ، وذلك تعريض بالمنافقين وتحذير من التغافل عن ملازمة الإيمان وشؤونه .

وأما ( تجاهدون ) فإنه لإرادة تجدد الجهاد إذا استنفروا إليه .

ومجيء ( يغفر ) مجزوما تنبيه على أن ( تؤمنون ) ( وتجاهدون ) وإن جاءا في صيغة الخبر فالمراد الأمر لأن الجزم إنما يكون في جواب الطلب لا في جواب الخبر . قاله المبرد والزمخشري .

وقال الفراء : جزم ( يغفر ) لأنه جواب ( هل أدلكم ) ، أي لأن متعلق [ ص: 195 ] ( أدلكم ) هو التجارة المفسرة بالإيمان والجهاد ، فكأنه قيل : هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم ذنوبكم .

وإنما جيء بالفعلين الأولين على لفظ الخبر للإيذان بوجوب الامتثال حتى يفرض المأمور كأنه سمع الأمر وامتثله .

وقرأ الجمهور ( تنجيكم ) بسكون النون وتخفيف الجيم . وقرأه ابن عامر بفتح النون وتشديد الجيم ، يقال : أنجاه ونجاه .

والإشارة بـ ( ذلكم ) إلى الإيمان والجهاد بتأويل : المذكور خير .

و ( خير ) هذا ليس اسم تفضيل الذي أصله أخير ووزنه : أفعل ، بل هو اسم لضد الشر ووزنه : فعل .

وجمع قوله ( خير ) ما هو خير الدنيا وخير الآخرة .

وقوله ( إن كنتم تعلمون ) تعريض لهم بالعتاب على توليهم يوم أحد بعد أن قالوا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه ، فندبوا إلى الجهاد فكان ما كان منهم يوم أحد ، كما تقدم في أول السورة ، فنزلوا منزلة من يشك في عملهم بأنه خير لعدم جريهم على موجب العلم .

والمساكن الطيبة : هي القصور التي في الجنة ، قال تعالى ويجعل لك قصورا .

وإنما خصت المساكن بالذكر هنا لأن في الجهاد مفارقة مساكنهم ، فوعدوا على تلك المفارقة المؤقتة بمساكن أبدية . قال تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم إلى قوله ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله الآية .

التالي السابق


الخدمات العلمية