الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 498 ] ( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) .

الدينار : معروف ، وهو أربعة وعشرون قيراطا ، والقيراط : ثلاث حبات من وسط الشعير ، فمجموعه : اثنتان وسبعون حبة ، وهو مجمع عليه . وفاؤه بدل من نون ، يدل على ذلك الجمع ، قالوا : دنانير ، وأصله : دنار ، أبدل من أول المثلين ، كما أبدلوا من النون في ثالث الأمثال ياء في : تظنيت . أصله تظننت ; لأنه من الظن ، وهو بدل مسموع ، والدينار : لفظ أعجمي تصرفت فيه العرب ، وألحقته بمفردات كلامها .

دام : ثبت ، والمضارع : يدوم ، فوزنه : فعل ، نحو قال : يقول ، قال الفراء : هذه لغة الحجاز وتميم ، تقول : دمت ، بكسر الدال . قال : ويجتمعون في المضارع ، يقولون : يدوم . وقال أبو إسحاق يقول : دمت تدام ، مثل : نمت تنام ، وهي لغة ، فعلى هذا يكون وزن " دام " : " فعل " بكسر العين ، نحو : خاف يخاف . والتدويم الاستدارة حول الشيء . ومنه قول ذي الرمة :


والشمس حيرى لها في الجو تدويم



وقال علقمة في وصف خمر :


تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها     ولا يخالطها في الرأس تدويم



والدوام : الدوار ، يأخذ في رأس الإنسان فيرى الأشياء تدور به . وتدويم الطائر في السماء ثبوته إذا صف واستدار . ومنه : الماء الدائم ، كأنه يستدير حول مركزه . لوى الحبل والتوى : فتله ثم استعمل في الإراغة في الحجج والخصومات ، ومنه : ليان الغريم : وهو دفعه ، ومطله ، ومنه : خصم ألوى : شديد الخصومة ، شبهت المعاني بالأجرام .

اللسان : الجارحة المعروفة . قال أبو عمرو : اللسان ، يذكر ويؤنث ، فمن ذكر جمعه : ألسنة ؛ ومن أنث جمعه : ألسنا . وقال الفراء : اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلا مذكرا انتهى . ويعبر باللسان عن الكلام ، وهو أيضا يذكر ويؤنث إذا أريد به ذلك .

الرباني : منسوب إلى الرب ، وزيدت الألف والنون مبالغة . كما قالوا : لحياني ، وشعراني ، ورقباني . فلا يفردون هذه الزيادة عن ياء النسبة . وقال قوم : هو منسوب إلى ربان ، وهو معلم الناس وسائسهم ، والألف والنون فيه كهي في غضبان ، وعطشان ، ثم نسب إليه فقالوا : رباني ، فعلى هذا يكون من النسب في الوصف ، كما قالوا : أحمري ، في أحمر ، ودواري في دوار ، وكلا القولين شاذ لا يقاس عليه . درس الكتاب يدرسه : أدمن قراءته وتكريره ، ودرس المنزل : عفا ، وطلل دارس : عاف .

( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ) الجمهور على أن أهل الكتاب ، هم اليهود والنصارى ، أخبر الله تعالى بذم الخونة منهم ، فظاهره أن في اليهود والنصارى من يؤتمن فيفي ، ومن يؤتمن فيخون . وقيل : أهل الكتاب عنى به أهل القرآن ، قاله ابن جريج . وهذا [ ص: 499 ] ضعيف جدا ; لما يأتي بعده من قولهم : ( ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ) وقيل : المراد بأهل الكتاب : اليهود ، لأن هذا القول ( ليس علينا في الأميين سبيل ) لم يقله ولا يعتقده إلا اليهود .

وقيل : ( من إن تأمنه بقنطار ) هم النصارى ; لغلبة الأمانة عليهم . و ( من إن تأمنه بدينار ) هم اليهود ; لغلبة الخيانة عليهم . وعين منهم كعب بن الأشرف وأصحابه . وقيل : ( من إن تأمنه بقنطار ) هم من أسلم من أهل الكتاب . و ( من إن تأمنه بدينار ) من لم يسلم منهم .

وروي أنه بايع بعض العرب بعض اليهود ، وأودعوهم فخانوا من أسلم ، وقالوا : قد خرجتم عن دينكم الذي عليه بايعناكم ، وفي كتابنا : لا حرمة لأموالكم ، فكذبهم الله تعالى . قيل : وهذا سبب نزول هذه الآية . وعن ابن عباس : ( من إن تأمنه بقنطار يؤده ) هو عبد الله بن سلام ، استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية ذهبا ، فأداه إليه . و ( من إن تأمنه بدينار ) فنحاص بن عازوراء ، استودعه رجل من قريش دينارا فجحده وخانه انتهى . ولا ينحصر الشرط في ذينك المعينين ، بل كل منهما فرد ممن يندرج تحت : من . ألا ترى كيف جمع في قوله : ( ذلك بأنهم قالوا ليس علينا ) قالوا ، والمخاطب بقوله : " تأمنه " ، هو النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا خلاف ، ويحتمل أن يكون السامع من أهل الإسلام ، وبينه قولهم : ( ليس علينا في الأميين سبيل ) فجمع الأميين ، وهم أتباع النبي الأمي . وقرأ أبي بن كعب : تئمنه ، في الحرفين ، وتئمنا : في يوسف . وقرأ ابن مسعود ، و الأشهب العقيلي ، و ابن وثاب : تيمنه ، بتاء مكسورة ، وياء ساكنة بعدها ، قال الداني : وهي لغة تميم . وأما إبدال الهمزة ياء في : تئمنه ، فلكسرة ما قبلها كما أبدلوا في بئر .

وقد ذكرنا الكلام على حروف المضارعة من فعل ، ومن ما أوله همزة وصل عند الكلام على قوله ( نستعين ) فأغنى عن إعادته . وقال ابن عطية ، حين ذكر قراءة أبي : وما أراها إلا لغة قرشية ، وهي كسر نون الجماعة : كنستعين ، وألف المتكلم ، كقول ابن عمر : لا إخاله ، وتاء المخاطب كهذه الآية ، ولا يكسرون الياء في الغائب ، وبها قرأ أبي في : " تئمنه " انتهى . ولم يبين ما يكسر فيه حروف المضارعة بقانون كلي ، وما ظنه من أنها لغة قرشية ليس كما ظن . وقد بينا ذلك في ( نستعين ) وتقدم تفسير القنطار ، في قوله : ( والقناطير المقنطرة ) .

وقرأ الجمهور : يؤده ، بكسر الهاء ، ووصلها بياء . وقرأ قالون باختلاس الحركة ، وقرأ أبو عمرو ، وأبو بكر ، وحمزة ، والأعمش ، بالسكون . قال أبو إسحاق : وهذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بين ; لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم ، وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تسكن في الوصل . وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة ، فغلط عليه ، كما غلط عليه في : بارئكم ، وقد حكى عنه سيبويه ، وهو ضابط لمثل هذا ، أنه كان يكسر كسرا خفيفا انتهى كلام ابن إسحاق . وما ذهب إليه أبو إسحاق من أن الإسكان غلط ليس بشيء ، إذ هي قراءة في السبعة ، وهي متواترة ، وكفى أنها منقولة من إمام البصريين أبي عمرو بن العلاء ، فإنه عربي صريح ، وسامع لغة ، وإمام في النحو ، ولم يكن ليذهب عنه جواز مثل هذا .

وقد أجاز ذلك الفراء ، وهو إمام في النحو واللغة . وحكى ذلك لغة لبعض العرب تجزم في الوصل والقطع . وقد روى الكسائي أن لغة عقيل وكلاب : أنهم يختلسون الحركة في هذه الهاء إذا كانت بعد متحرك ، وأنهم يسكنون أيضا . قال الكسائي : سمعت أعراب عقيل وكلاب يقولون : ( لربه لكنود ) بالجزم ، و " لربه لكنود " ، بغير تمام ، وله مال ، وغير عقيل وكلاب ، لا يوجد في كلامهم اختلاس ولا سكون في له وشبهه إلا في ضرورة نحو قوله .


له زجل كأنه صوت حاد



وقال :


إلا لأن عيونه سيل واديها



ونص بعض أصحابنا على أن حركة هذه الهاء ، بعد الفعل الذاهب منه حرف لوقف أو جزم ، يجوز فيها الإشباع ، ويجوز الاختلاس ، ويجوز السكون . وأبو إسحاق الزجاج ، يقال عنه : إنه لم يكن إماما في اللغة ، ولذلك أنكر على ثعلب في كتابه : ( الفصيح ) مواضع زعم أن العرب لا [ ص: 500 ] تقولها ، ورد الناس على أبي إسحاق في إنكاره ، ونقلوها من لغة العرب . وممن رد عليه : أبو منصور الجواليقي ، وكان ثعلب إماما في اللغة ، وإماما في النحو على مذهب الكوفيين ، ونقلوا أيضا قراءتين : إحداهما ضم الهاء ووصلها بواو ، وهي قراءة الزهري ، والأخرى : ضمها دون وصل ، وبها قرأ سلام .

والباء في : بقنطار ، وفي : بدينار ، قيل : للإلصاق . وقيل : بمعنى " على " ، إذ الأصل أن تتعدى بعلى ، كما قال مالك : ( لا تأمنا على يوسف ) وقال : ( هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه ) وقيل : بمعنى " في " ، أي : في حفظ قنطار ، وفي حفظ دينار . والذي يظهر أن القنطار والدينار ، مثالان للكثير والقليل ، فيدخل أكثر من القنطار وأقل ، وفي الدينار أقل منه .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد طبقه يعني : في الدينار لا يجوز إلا في دينار فما زاد ، ولم يعن بذكر الخائنين في : أقل ، إذ هم طغام حثالة . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية