الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة سياقه على مذهب البصريين أن لا رد لكلام سابق وهو ما يدعونه إليه ها هنا من الكفر بالله سبحانه وشرك الآلهة الباطلة عز وجل به و ( جرم ) فعل ماض بمعنى ثبت وحق كما في قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      ولقد طعنت أبا عبيدة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا



                                                                                                                                                                                                                                      وأن مع ما في حيزها فاعلة أي ثبت وحق عدم دعوة للذي تدعونني إليه من الأصنام إلى نفسه أصلا يعني أن من حق المعبود بالحق أن يدعو العباد المكرمين كالأنبياء والملائكة إلى نفسه ويأمرهم بعبادته ثم يدعو العباد بعضهم بعضا إليه تعالى وإلى طاعته سبحانه إظهارا لدعوة ربهم عز وجل وما تدعون إليه وإلى عبادته من الأصنام لا يدعو هو إلى ذلك ولا يدعي الربوبية أصلا لا في الدنيا لأنه جماد فيها لا يستطيع شيئا من دعاء وغيره ولا في الآخرة لأنه إذا أنشأه الله تعالى فيها حيوانا تبرأ من الدعاة إليه ومن عبدته وحاصله حق أن ليس لآلهتكم دعوة أصلا فليست بآلهة حقة أو بمعنى كسب وفاعله ضمير الدعاء السابق الذي دعاه قومه وإن مع ما في حيزها مفعوله أي كسب دعاؤكم إياي إلى آلهتكم أن لا دعوة لها أي ما حصل من ذلك [ ص: 72 ] إلا ظهور بطلان دعوتها وذهابها ضياعا ، وقيل : ( جرم ) اسم لا وهو مصدر مبني على الفتح بمعنى القطع والخبر أن مع ما في حيزها على معنى لا قطع لبطلان دعوة ألوهية الأصنام أي لا ينقطع ذلك البطلان في وقت من الأوقات فينقلب حقا ، وهذا البطلان هو معنى النفي الذي يفهم من قوله تعالى : ليس له دعوة .. إلخ ، ولا ( جرم ) على هذا مثل لا بد فإنه من التبديد وهو التفريق وانقطاع بعض الشيء من بعض ، ومن ثم قيل : المعنى لا بد من بطلان دعوة الأصنام أي بطلانها أمر ظاهر مقرر ، ونقل هذا القول عن الفراء ، وعنه أن ذلك هو أصل لا ( جرم ) لكنه كثر استعماله حتى صار بمعنى حقا فلهذا يجاب بما يجاب به القسم في مثل لا جرم لآتينك . وفي الكشاف وروي عن العرب لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء أي لا بد وفعل وفعل أخوان كرشد ورشد وعدم وعدم ، وهذه اللغة تؤيد القول بالاسمية في اللغة الأخرى ولا تعينها كما لا يخفى ، وقد تقدم شيء من الكلام في لا جرم أيضا فليتذكر .

                                                                                                                                                                                                                                      ولام له في جميع هذه الأوجه لنسبة الدعوة إلى الفاعل على ما سمعت من المعنى ، وجوز أن يكون لنسبتها إلى المفعول فإن الكفار كانوا يدعون آلهتهم في الآية دعاءهم إياها في معنى نفي الاستجابة منها لدعائهم إياها ، فالمعنى أن ما تدعونني إليه من الأصنام ليس له استجابة دعوة لمن يدعوه أصلا أو ليس له دعوة مستجابة أي لا يدعي دعاء يستجيبه لداعيه . فالكلام إما على حذف المضاف أو على حذف الموصوف ، وجوز التجوز فيه بالدعوة فعن استجابتها التي تترتب عليها ، وهذا كما سمي الفعل المجازي عليه باسم الجزاء في قولهم : كما تدين تدان وهو من باب المشاكلة عند بعض وأن مردنا إلى الله أي مرجعنا إليه تعالى بالموت ، وهذا عطف على أن ما تدعونني داخل في حكمه ، وكذا قوله تعالى : وأن المسرفين هم أصحاب النار وفسر ابن مسعود ومجاهد ( المسرفين ) هنا بالسفاكين للدماء بغير حلها فيكون المؤمن قد ختم تعريضا بما افتتح به تصريحا في قوله : أتقتلون رجلا .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن قتادة أنهم المشركون فإن الإشراك إسراف في الضلالة ، وعن عكرمة أنهم الجبارون المتكبرون ، وقيل : كل من غلب شره خيره فهو مسرف والمراد بأصحاب النار ملازموها ، فإن أريد بالمسرفين ما يدخل فيه المؤمن العاصي أريد بالملازمة العرفية الشاملة للمكث الطويل ، وإن أريد بهم ما يخص الكفرة فهي بمعنى الخلود .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية