الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور ( 36 ) وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير ( 37 ) )

يقول - تعالى ذكره - ( والذين كفروا ) بالله ورسوله ( لهم نار جهنم ) يقول : لهم نار جهنم مخلدين فيها لا حظ لهم في الجنة ولا نعيمها .

كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( لهم نار جهنم لا يقضى عليهم ) بالموت ( فيموتوا ) ، لأنهم لو ماتوا لاستراحوا ( ولا يخفف عنهم من عذابها ) يقول : ولا يخفف عنهم من عذاب نار جهنم بإماتتهم ، [ ص: 476 ] فيخفف ذلك عنهم .

كما حدثني مطرف بن عبد الله الضبي قال : ثنا أبو قتيبة قال : ثنا أبو هلال الراسبي ، عن قتادة ، عن أبي السوداء قال : مساكين أهل النار لا يموتون ، لو ماتوا لاستراحوا .

حدثني عقبة بن سنان القزاز قال : ثنا غسان بن مضر قال : ثنا سعيد بن يزيد ، وحدثني يعقوب قال : ثنا ابن علية ، عن سعيد بن يزيد ، وحدثنا سوار بن عبد الله قال : ثنا بشر بن المفضل ، ثنا أبو سلمة عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، لكن ناسا ، أو كما قال ، تصيبهم النار بذنوبهم ، أو قال : بخطاياهم ، فيميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة ، فجيء بهم ضبائر ضبائر ، فبثوا على أهل الجنة ، فقال : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل " فقال رجل من القوم حينئذ : كأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان بالبادية .

فإن قال قائل : وكيف قيل ( ولا يخفف عنهم من عذابها ) وقد قيل في موضع آخر ( كلما خبت زدناهم سعيرا ) ؟ قيل : معنى ذلك : ولا يخفف عنهم من هذا النوع من العذاب .

وقوله ( كذلك نجزي كل كفور ) يقول - تعالى ذكره - : هكذا يكافئ كل جحود لنعم ربه يوم القيامة ; بأن يدخلهم نار جهنم بسيئاتهم التي قدموها في الدنيا .

وقوله ( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ) يقول - تعالى ذكره - : هؤلاء الكفار يستغيثون ويضجون في النار ، يقولون : يا ربنا أخرجنا نعمل صالحا أي : نعمل بطاعتك ( غير الذي كنا نعمل ) قبل من معاصيك . وقوله ( يصطرخون ) يفتعلون من الصراخ ; حولت تاؤها طاء لقرب مخرجها من الصاد لما ثقلت .

[ ص: 477 ] وقوله ( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ) اختلف أهل التأويل في مبلغ ذلك فقال بعضهم : ذلك أربعون سنة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا بشر بن المفضل قال : ثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن مجاهد قال : سمعت ابن عباس يقول : العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم ( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ) أربعون سنة .

حدثني يعقوب قال : ثنا هشيم ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن مسروق أنه كان يقول : إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره من الله .

وقال آخرون : بل ذلك ستون سنة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن ابن خثيم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ) قال : ستون سنة .

حدثنا أبو كريب قال : ثنا ابن إدريس قال : سمعت عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم ستون سنة .

حدثنا علي بن شعيب قال : ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، عن إبراهيم بن الفضل ، عن أبي حسين المكي ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا كان يوم القيامة نودي : أين أبناء الستين ؟ وهو العمر الذي قال الله ( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ) " .

حدثني أحمد بن الفرج الحمصي قال : ثنا بقية بن الوليد قال : ثنا [ ص: 478 ] مطرف بن مازن الكناني قال : ثني معمر بن راشد قال : سمعت محمد بن عبد الرحمن الغفاري ، يقول : سمعت أبا هريرة ، يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لقد أعذر الله إلى صاحب الستين سنة والسبعين " .

حدثنا أبو صالح الفزاري قال : ثنا محمد بن سوار قال : ثنا يعقوب بن عبد القاري الإسكندري قال : ثنا أبو حازم ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر " .

حدثنا محمد بن سوار قال : ثنا أسد بن حميد ، عن سعيد بن طريف ، عن الأصبغ بن نباتة ، عن علي رضي الله عنه في قوله ( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ) قال : العمر الذي عمركم الله به ستون سنة .

وأشبه القولين بتأويل الآية إذ كان الخبر الذي ذكرناه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبرا في إسناده بعض من يجب التثبت في نقله ، قول من قال ذلك أربعون سنة ، لأن في الأربعين يتناهى عقل الإنسان وفهمه ، وما قبل ذلك وما بعده منتقص عن كماله في حال الأربعين .

وقوله ( وجاءكم النذير ) اختلف أهل التأويل في معنى النذير ; فقال بعضهم : عنى به محمدا - صلى الله عليه وسلم - .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( وجاءكم النذير ) قال : النذير : النبي ، وقرأ ( هذا نذير من النذر الأولى ) .

وقيل : عنى به الشيب .

فتأويل الكلام إذن : أولم نعمركم يا معشر المشركين بالله من قريش من السنين ، ما يتذكر فيه من تذكر ، من ذوي الألباب والعقول ، واتعظ منهم من اتعظ ، وتاب من تاب ، وجاءكم من الله منذر ينذركم ما أنتم فيه اليوم من عذاب [ ص: 479 ] الله ، فلم تتذكروا مواعظ الله ، ولم تقبلوا من نذير الله الذي جاءكم ما أتاكم به من عند ربكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية