الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
3- جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه :

اتسعت الفتوحات الإسلامية ، وتفرق القراء في الأمصار ، وأخذ أهل كل مصر عمن وفد إليهم قراءته ، ووجوه القراءة التي يؤدون بها القرآن مختلفة باختلاف الأحرف التي نزل عليها ، فكانوا إذا ضمهم مجمع أو موطن من مواطن الغزو عجب البعض من وجوه هذا الاختلاف ، وقد يقنع بأنها جميعا مسندة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن هذا لا يحول دون تسرب الشك للناشئة التي لم تدرك الرسول ، فيدور الكلام حول فصيحها وأفصحها ، وذلك يؤدي إلى الملاحاة إن استفاض أمره ومردوا عليه ، ثم إلى اللجاج والتأثيم ، وتلك فتنة لا بد لها من علاج .

[ ص: 124 ] فلما كانت غزوة " أرمينية " وغزوة " أذربيجان " من أهل العراق ، كان فيمن غزاهما " حذيفة بن اليمان " فرأى اختلافا كثيرا في وجوه القراءة ، وبعض ذلك مشوب باللحن ، مع إلف كل لقراءته ، ووقوفه عندها ، ومماراته مخالفة لغيره ، وتكفير بعضهم الآخر ، حينئذ فزع إلى عثمان -رضي الله عنه- وأخبره بما رأى ، وكان عثمان قد نمى إليه أن شيئا من ذلك الخلاف يحدث لمن يقرئون الصبية ، فينشأ هؤلاء وبينهم من الاختلاف ما بينهم ، فأكبر الصحابة هذا الأمر مخافة أن ينجم عنه التحريف والتبديل ، وأجمعوا أمرهم أن ينسخوا الصحف الأولى التي كانت عند أبي بكر ، ويجمعوا الناس عليها بالقراءات الثابتة على حرف واحد ، فأرسل عثمان إلى حفصة ، فأرسلت إليه بتلك الصحف ، ثم أرسل إلى زيد بن ثابت الأنصاري ، وإلى عبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام القرشيين ، فأمرهم أن ينسخوها في المصاحف ، وأن يكتب ما اختلف فيه زيد مع رهط القرشيين الثلاثة بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم .

عن أنس : " أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان ، وكان يغازي أهل الشام في أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة ، فقال لعثمان ، أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى ، فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فنسخوها في المصاحف ، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم ، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة ، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق ، قال زيد : آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ بها ، فالتمسناها فوجدناها مع [ ص: 125 ] خزيمة بن ثابت الأنصاري : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فألحقناها في سورتها في المصحف .

ودلت الآثار على أن الاختلاف في وجوه القراءة لم يفزع منه حذيفة بن اليمان وحده ، بل شاركه غيره من الصحابة في ذلك ، عن ابن جرير قال : " حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل ، والمعلم يعلم قراءة الرجل . فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون ، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين -قال أيوب : فلا أعلمه إلا قال- حتى كفر بعضهم بقراءة بعض ، فبلغ ذلك عثمان . فقام خطيبا فقال : " أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون ، فمن نأى عني من أهل الأمصار أشد فيه اختلافا وأشد لحنا ، اجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إماما " قال أبو قلابة : فحدثني أنس بن مالك قال : كنت فيمن يملى عليهم ، قال : فربما اختلفوا في الآية فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولعله أن يكون غائبا في بعض البوادي ، فيكتبون ما قبلها وما بعدها ، ويدعون موضعها ، حتى يجيء أو يرسل إليه ، فلما فرغ من المصحف كتب عثمان إلى أهل الأمصار : إني قد صنعت كذا وكذا ، ومحوت ما عندي ، فامحو ما عندكم .

وأخرج ابن أشتة من طريق أيوب عن أبي قلابة مثله ، وذكر ابن حجر في الفتح أن ابن داود أخرجه في المصاحف من طريق أبي قلابة .

وعن سويد بن غفلة قال : " قال علي : لا تقولوا في عثمان إلا خيرا ، فوالله ما فعل الذي فعل في المصحف إلا عن ملأ منا . قال : ما تقولون في هذه القراءة ؟

[ ص: 126 ] قد بلغني أن بعضهم يقول : إن قراءتي خير من قراءتك ، وهذا يكاد يكون كفرا ، قلنا : فما ترى ؟ قال : أرى أن يجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف ، قلنا : فنعم ما رأيت “ .

وهذا يدل على أن ما صنعه عثمان قد أجمع عليه الصحابة ، كتبت مصاحف على حرف واحد من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ، ليجتمع الناس على قراءة واحدة ، ورد عثمان الصحف إلى حفصة ، وبعث إلى كل أفق بمصحف من المصاحف . واحتبس بالمدينة واحدا هو مصحفه الذي يسمى الإمام . وتسميته بذلك لما جاء في بعض الروايات السابقة من قوله : " اجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إماما " وأمر أن يحرق ما عدا ذلك من صحيفة أو مصحف ، وتلقت الأمة ذلك بالطاعة ، وتركت القراءة بالأحرف الستة الأخرى ، ولا ضير في ذلك . فإن القراءة بالأحرف السبعة ليست واجبة ، ولو أوجب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الأمة القراءة بها جميعا لوجب نقل كل حرف منها نقلا متواترا تقوم به الحجة ولكنهم لم يفعلوا ذلك فدل هذا على أن القراءة بها من باب الرخصة . وأن الواجب هو تواتر النقل ببعض هذه الأحرف السبعة . وهذا هو ما كان .

قال ابن جرير فيما فعله عثمان : " وجمعهم على مصحف واحد ، وحرف واحد ، وخرق ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه ، وعزم على كل من كان عنده مصحف " مخالف " المصحف الذي جمعهم عليه ، أن يحرقه ، فاستوثقت له الأمة على ذلك بالطاعة ، ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية ، فتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامها العادل في تركها ، طاعة منها له ، نظرا منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملتها ، حتى درست من الأمة معرفتها ، وتعفت آثارها ، فلا سبيل لأحد اليوم إلى القراءة بها ، لدثورها وعفو آثارها ، [ ص: 127 ] وتتابع المسلمين على رفض القراءة بها ، من غير جحود منها صحتها وصحة شيء منها ، ولكن نظرا منها لأنفسها ولسائر أهل دينها ، فلا قراءة للمسلمين اليوم إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح ، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية .

فإن قال بعض من ضعفت معرفته : وكيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهموها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمرهم بقراءتها ؟

قيل : إن أمره إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض ، وإنما كان أمر إباحة ورخصة ، لأن القراءة بها لو كانت فرضا عليهم لوجب أن يكون العلم بكل حرف من تلك الأحرف السبعة ، عند من يقوم بنقله الحجة ، ويقطع خبره العذر ، ويزيل الشك من قرأة الأمة ، وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على أنهم كانوا في القراءة بها مخيرين ، بعد أن يكون في نقلة القرآن من الأمة من تجب بنقله الحجة ببعض تلك الأحرف السبعة .

وإذ كان ذلك كذلك ، لم يكن القوم بتركهم نقل جميع القراءات السبع ، تاركين ما كان عليهم نقله ، بل كان الواجب عليهم من الفعل ما فعلوا ، إذ كان الذي فعلوا من ذلك ، كان هو النظر للإسلام وأهله ، فكان القيام بفعل الواجب عليهم ، بهم أولى من فعل ما لو فعلوه ، كانوا إلى الجناية على الإسلام وأهله أقرب منهم إلى السلامة ، من ذلك " .

"

التالي السابق


الخدمات العلمية