الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 375 ] 410 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن لم يحج عن نفسه حجة الإسلام هل له أن يحج عن غيره حجة الإسلام أم لا ؟

2547 - حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح قال : حدثنا موسى بن هارون البردي ، وحدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن أعين البغدادي قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني الكوفي ، وحدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس البغدادي قال : حدثنا محمد بن طريف البجلي الكوفي قال : حدثنا عبدة بن سليمان الكلابي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عزرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول : لبيك عن شبرمة قال : من شبرمة ؟ قال : أخ أو قريب لي قال : هل حججت قط ؟ قال : لا . قال : اجعل هذه عنك ثم احجج عن شبرمة .

[ ص: 376 ] [ ص: 377 ] [ ص: 378 ] قال : ففي هذا الحديث سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سمعه يلبي عن شبرمة هل حججت قط ؟ وجواب ذلك رسول الله أنه لم يكن حج عن نفسه ، وقوله له بعد ذلك : اجعل هذه عنك ثم احجج عن شبرمة . فتعلق بهذا الحديث قوم وقالوا : من حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه قبل ذلك حجة الإسلام أن تلك الحجة تكون عن نفسه من حجة الإسلام اتباعا لهذا الحديث ، ثم قاسوا عليه إحرام الرجل عن نفسه تطوعا ولم يكن حج حجة الإسلام قبل ذلك أن حجته تلك تكون عن حجة الإسلام ، ولم يقيسوا على ذلك أحكام الصوم في غير رمضان فقالوا : من صام في رمضان تطوعا إن ذلك الصوم لا يجزئه من رمضان ولا من التطوع ، وقد كان الواجب عليهم إن كان هذا الحديث الذي ذكرنا ثابتا في الحج أن يقاس عليه صوم التطوع في غير رمضان ، فيجعل من رمضان لا من التطوع كما جعل الحج تطوعا ممن لم يحج حجة الإسلام عندهم من حجة الإسلام لا من التطوع ، بل كان الصوم بهذا أولى ، وبذلك الحكم أجزأ لأن رمضان وقت لصوم العباد جميعا رمضان فيه ، لا وقت لصوم غيره فيه ، ووقت الحج وقت للحج عن الفرائض وللحج عن النوافل ، ثم اعتبرنا هذا الحديث وما روي سواه مما يدخل في هذا المعنى فوجدنا هذا الحديث إنما يدور على عزرة ، وعزرة هذا هو عزرة بن تميم ، [ ص: 379 ] وقد ذكر لي هارون بن محمد العسقلاني ، عن الغلابي قال : كان يحيى بن سعيد لا يرضى عزرة يعني صاحب هذا الحديث ، وموضع يحيى من هذا هو الموضع الذي لا مثل له فيه ، ثم اعتبرنا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى سوى ذلك .

2548 - فوجدنا أبا أمية قد حدثنا قال : حدثنا قبيصة بن عقبة قال : حدثنا سفيان ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا [ ص: 380 ] يلبي عن رجل فقال : إن كنت حججت وإلا فحج عن نفسك . قال : فكان هذا الحديث أحسن إسنادا من إسناد الحديث الأول ، غير أنا التمسنا الرجل الذي روى عنه أبو قلابة هذا الحديث هل هو ممن يجوز أن يكون أبو قلابة لقيه فأخذه عنه سماعا أم لا . ؟

فوجدنا عبيد بن رجال قد حدثنا قال : حدثنا إبراهيم بن محمد الشافعي قال : حدثنا الحارث بن عمير ، عن أيوب ، عن أبي قلابة قال : سمع ابن عباس رجلا يقول : لبيك عن شبرمة قال : وما شبرمة ؟ فذكر قرابة ، قال : أحججت عن نفسك ؟ قال : لا قال : فاجعلها عن نفسك ثم حج عن شبرمة .

ووجدنا يوسف بن يزيد قد حدثنا قال : حدثنا حجاج بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا خالد ، عن أبي قلابة ، عن ابن عباس ثم ذكر مثله .

[ ص: 381 ] فعقلنا بذلك أن الرجل الصحابي الذي لم يسمه أبو قلابة في الحديث الأول هو ابن عباس وأبو قلابة ، فلا سماع له من ابن عباس ، فعاد ذلك الحديث منقطعا ولم يجز للمحتج به على أصله أن يحتج بمثله إذ كان مثله عنده لا تقوم به حجة .

ثم نظرنا هل روي ذلك الحديث من غير الجهة التي رويناه منها أم لا ؟ فوجدنا يونس قد حدثنا قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث أن قتادة بن دعامة حدثه عن سعيد بن جبير أنه حدثه أن عبد الله بن عباس مر به رجل يهل يقول : لبيك بحجة عن شبرمة قال : وما شبرمة ؟ قال : رجل أوصى أن يحج عنه قال : أحججت أنت ؟ قال : لا قال : فابدأ أنت فحج عن نفسك ، ثم حج عن شبرمة قال : فكان هذا الحديث من رواية عمرو بن الحارث إنما عاد إلى قول ابن عباس لا إلى رواية منه إياه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك ما [ ص: 382 ] ينفي الحديث الأول الذي رويناه في أول هذا الباب ، وكذلك أيضا حديث أبي قلابة من رواية أيوب هو موقوف على ابن عباس لا مرفوع عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

وأما حديث أبي قلابة من حديث سفيان فهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم غير أنه قد دخله الانقطاع الذي فيه بين ابن عباس وأبي قلابة .

فقال قائل : فقد دخل في حديث عمرو عن قتادة ما قد دخل وهو قوله : إن سعيد بن جبير حدثه وقتادة فلم يسمع من سعيد بن جبير شيئا ، فذلك دليل أن عمرا لم يضبطه عن قتادة كما ضبطه عنه سعيد بن أبي عروبة .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله جل وعز وعونه أن عمرا ضبط مما يظن والذي جاء مما ظن هو من عمرو لم يكن من قبل عمرو ولكنه من قبل قتادة لحذاقته بالتدليس حتى يجوز ذلك منه على من يسمعه منه كما جاز مثله في غيره على غير عمرو مما قد ذكرناه في كتابنا على الكرابيسي مما نحن مستغنون به عن إعادته هاهنا ، [ ص: 383 ] ثم أردنا أن ننظر إلى ما روي في هذا الباب سوى ما قد رويناه فيه من الآثار ؛ لنتبين ثبوتها أو سقوطها .

2549 - فوجدنا ابن أبي مريم قد حدثنا قال : حدثنا الفريابي قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن ابن عطاء يعني يعقوب ، عن أبيه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقول : لبيك عن شبرمة قال : حججت عن نفسك ؟ قال : لا قال : فعن نفسك فحج قبل .

قال : فكان هذا الحديث إنما رجع إلى يعقوب بن عطاء وليس يعقوب هذا عند أهل الحديث حجة في الحديث ، ثم نظرنا هل روى غيره في هذا الباب . ؟

2550 - فوجدنا يوسف بن يزيد قد حدثنا قال : حدثنا حجاج بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا ابن أبي ليلى عن عطاء ، [ ص: 384 ] عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يلبي عن شبرمة فقال : وما شبرمة فذكر قرابة قال : أحججت عن نفسك ؟ قال : لا ، قال : فاحجج عن نفسك ثم احجج عن شبرمة .

قال أبو جعفر : فكان هذا الحديث أيضا إنما يرجع إلى ابن أبي ليلى وابن أبي ليلى مع جلالة مقداره وعلو مرتبته في الفقه وفيما سواه مضطرب الحفظ جدا ، ثم نظرنا هل روي فيه شيء غير ما ذكرناه . ؟

2551 - فوجدنا ابن أبي داود قد حدثنا قال : حدثنا نعيم بن حماد قال : حدثنا الفضل بن موسى السيناني ، عن ابن جريج ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن رجل لم يحج أيحج عن غيره ؟ فقال : دين الله عز وجل أحق أن يقضيه . قلت أنا : وكان هذا عندنا أحسن من جميع ما ذكرناه في هذا الباب إسنادا من الأحاديث التي ذكرناها فيه ، غير أن الذي فيه من جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي سأله عن ما سأله فيه إنما هو أن دين الله عز وجل أحق أن يقضيه فهذا خلاف ما في غيره مما قد رويناه في هذا الباب ، [ ص: 385 ] وليس فيه أنه لو أحرم عن غيره كان ذلك الإحرام عن نفسه .

ولما لم نجد في هذه الآثار ما يدلنا على الجواب في هذا الباب طلبناه في غيرها فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله من سأله في الحج عن غيره ، فأطلق ذلك له لم يسأله أحججت عن نفسك حجة الإسلام أم لا ؟ فدل ذلك أنه أطلق له أن يحج عن غيره ، وإن لم يكن حج عن نفسه قبل ذلك حجة الإسلام .

ثم اعتبرنا حكم من لم يحج عن نفسه حجة الإسلام فحج عن نفسه حجة تطوعا هل يكون من حجة الإسلام كما قال ذلك من قاله فيه أو يكون تطوعا كما قال ذلك من قاله فيه وهم أهل المدينة وأهل الكوفة . ؟

2552 - فوجدنا محمد بن خزيمة قد حدثنا قال : حدثنا عبيد الله بن محمد التيمي قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن الأزرق بن قيس ، عن يحيى بن يعمر ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال :

وحدثنا داود عن زرارة يعني ابن أوفى ، عن تميم الداري جميعا يرفعانه قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته ، فإن كان أكملها كتبت كاملة ، وإن لم يكن أكملها قال الله عز وجل لملائكته : انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فأكملوا به ما ضيع من فريضته ، والزكاة مثل ذلك ، ثم تؤخذ الأعمال على حساب ذلك .

[ ص: 386 ]

[ ص: 387 ]

2553 - ووجدنا محمد بن علي بن داود قد حدثنا قال : حدثنا عاصم بن علي بن عاصم قال : حدثنا همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حريث بن قبيصة قال : جلست إلى أبي هريرة فسمعته يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أول ما يحاسب به العبد بصلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح ، وإن فسدت فقد خاب وخسر ، وإن انتقص من فريضته شيئا قال : انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل به ما نقص من الفريضة ، ثم يكون سائر عمله على نحو ذلك ، [ ص: 388 ] فدلنا ما في هذا الحديث أن الرجل قد يكون من حج التطوع ، ولم يحج قبل ذلك الحج المفروض عليه ، فدل ذلك أنه جائز للرجل أن يحج تطوعا ، ولم يحج الفريضة .

ودل ذلك أنه جائز أن يحج عن غيره الحج المفترض عليه قبل أن يحج عن نفسه الحج المفترض عليه .

وكما كان لمن لم يصل الصلاة المفروضة عليه بعد دخول وقتها عليه أن يصلي تطوعا ، ثم يصليها بعد ذلك كان ذلك لمن دخل عليه وقت الحج ، ووجب عليه فرضه أن يحج تطوعا عن نفسه ، وأن يحج حجا مفروضا عن غيره .

ثم التمسنا الرجل المذكور من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الأزرق بن قيس من هو . ؟

2554 - فوجدنا أحمد بن شعيب قد حدثنا قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم يعني ابن راهويه قال : أخبرنا النضر بن شميل قال : أخبرنا [ ص: 389 ] حماد بن سلمة ، عن الأزرق بن قيس ، عن يحيى بن يعمر ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أول ما يحاسب به العبد صلاته ، فإن كان أكملها وإلا قال الله عز وجل : انظروا لعبدي من تطوع فإن وجد له تطوع قال : أكملوا له الفريضة والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية