الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 438 ] آ . (153) قوله تعالى : إذ تصعدون : العامل في "إذ " قيل : مضمر أي : اذكروا . وقال الزمخشري : "صرفكم إذ ليبتليكم " . وقال أبو البقاء : "ويجوز أن تكون ظرفا لـ " عصيتم "أو " تنازعتم "أو فشلتم " . وقيل : "هو ظرف لـ " عفا عنكم " . وكل هذه الوجوه سائغة ، وكونه ظرفا لـ " صرفكم "جيد من جهة المعنى ، ولـ " عفا "جيد من جهة القرب . وعلى بعض الأقوال تكون المسألة من باب التنازع ، وتكون على إعمال الأخير منها لعدم الإضمار في الأول ، ويكون التنازع في أكثر من عاملين .

                                                                                                                                                                                                                                      والجمهور على " تصعدون "بضم التاء وكسر العين من أصعد في الأرض إذا ذهب فيها ، والهمزة فيه للدخول نحو : " أصبح زيد "أي : دخل في الصباح ، فالمعنى : إذ تدخلون في الصعود ، ويبين ذلك قراءة أبي : " تصعدون في الوادي " . والحسن والسلمي : " تصعدون "من صعد في الجبل أي رقي ، والجمع بين القراءتين : أنهم أولا أصعدوا في الوادي ، ثم لما حزبهم العدو صعدوا في الجبل ، وهذا على رأي من يفرق بين : أصعد وصعد . وأبو حيوة : " تصعدون "بالتشديد ، وأصلها : تتصعدون ، فحذفت إحدى التاءين : إما تاء المضارعة أو تاء تفعل ، والجمع بين قراءته وقراءة غيره كما تقدم . والجمهور " تصعدون "بتاء الخطاب ، وابن محيصن - ويروى عن ابن كثير - بياء الغيبة على الالتفات وهو حسن ، ويجوز أن يعود الضمير على المؤمنين أي : والله ذو فضل على المؤمنين إذ يصعدون ، فالعامل في إذ : " فضل " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 439 ] يقال : أصعد : أبعد في الذهاب ، قال القتبي : " كأنه أبعد كإبعاد الارتفاع "قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1466 - ألا أيهذا السائلي أين أصعدت فإن لها في أهل يثرب موعدا



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1467 - قد كنت تبكين على الإصعاد     فاليوم سرحت وصاح الحادي



                                                                                                                                                                                                                                      وقال الفراء وأبو حاتم : " الإصعاد : ابتداء السفر والمخرج ، والصعود مصدر صعد [إذا ] رقي من سفل إلى علو "ففرقوا هؤلاء بين صعد وأصعد . وقال المفضل : " صعد وصعد وأصعد بمعنى واحد ، والصعيد وجه الأرض " .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا تلوون الجمهور على " تلوون "بواوين . وقرئ بإبدال الأولى همزة كراهية اجتماع واوين ، وليس بقياس لكون الضمة عارضة ، والواو المضمومة تبدل همزة بشروط تقدم ذكرها في البقرة : ألا تكون الضمة عارضة كهذه الكلمة ، وألا تكون مزيدة نحو : " ترهوك " ، وألا يمكن تخفيفها نحو : " سور "و " نور "جمع سوار ونوار لأنه يمكن تسكينها فتقول : سور ونور [ ص: 440 ] فيخف اللفظ بها ، وألا يدغم فيها نحو : " تعود "مصدر تعود ، فنحو " فووج "يطرد إبداله لاستكمال الشروط .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى لا تلوون : لا ترجعون ، يقال : "لوى به " [أي ] : ذهب به ، ولوى عليه : عطف . قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1468 - ... ... ... ...     أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا



                                                                                                                                                                                                                                      وأصل تلوون : تلويون فأعل بحذف اللام ، وقد تقدم في قوله : يلوون ألسنتهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الأعمش : - ورويت عن عاصم - "تلوون " بضم التاء . من ألوى وهي لغة في "لوى " ففعل وأفعل بمعنى . وقرأ الحسن : "تلون " بواو واحدة ، وخرجوها على أنه أبدل الواو همزة ، ثم نقل حركة الهمزة على اللام ثم حذف الهمزة على القاعدة ، فلم يبق من الكلمة إلا الفاء وهي اللام . وقال ابن عطية : "وحذفت إحدى الواوين للساكنين " ، وكان قد قدم أن هذه القراءة مركبة على لغة من يهمز الواو وينقل الحركة ، وهذا عجيب بعد أن يجعلها من باب نقل حركة الهمزة كيف يعود يقول : حذفت إحدى الواوين ؟ [ ص: 441 ] ويمكن تخريج قراءة الحسن على وجهين آخرين ، أحدها : أن يقال : استثقلت الضمة على الواو لأنها أختها ، فكأنه اجتمع ثلاثة واوات ، فنقلت الضمة إلى اللام فالتقى ساكنان : الواو التي هي عين الكلمة والواو التي هي ضمير ، فحذفت الأولى لالتقاء الساكنين ، ولو قال ابن عطية هكذا لكان أولى . والثاني : أن يكون "تلون " مضارع "ولي كذا " من الولاية ، وإنما عدي بـ "على " لأنه ضمن معنى العطف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ حميد بن قيس : "على أحد " بضمتين ، يريد الجبل ، والمعنى على من في جبل أحد ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن عطية : "والقراءة الشهيرة أقوى لأنه لم يكن على الجبل إلا بعد ما فر الناس عنه ، وإصعادهم إنما كان وهو يدعوهم " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : والرسول يدعوكم مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال ، العامل فيها : "تلوون " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : فأثابكم فيه وجهان ، أحدهما : أنه معطوف على "تصعدون " و "تلوون " ، ولا يضر كونهما مضارعين ، لأنهما ماضيان في المعنى ، لأن "إذ " المضافة إليهما صيرتهما ماضيين ، فكأن المعنى : إذا صعدتم وألويتم . والثاني : أنه معطوف على "صرفكم " . قال الزمخشري : "فأثابكم " عطف على "صرفكم " . وفيه بعد لطول الفصل . وفي فاعله قولان ، أحدهما : أنه الباري تعالى ، والثاني : أنه النبي صلى الله عليه وسلم . قال الزمخشري : "ويجوز أن يكون الضمير في " فأثابكم "للرسول ، أي : فآساكم في الاغتمام ، وكما غمكم ما نزل به من كسر رباعيته غمه ما نزل بكم من فوت الغنيمة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 442 ] و " غما "مفعول ثان ، و " بغم "يجوز في الباء أوجه ، أحدها : أن تكون للسببية ، على معنى أن متعلق الغم الأول الصحابة ، ومتعلق الغم الثاني قتل المشركين يوم بدر ، والمعنى : فأثابكم غما بالغم الذي أوقعه على أيديكم بالكفار يوم بدر . وقيل : "متعلق الغم الرسول ، والمعنى : أذاقكم الله غما بسبب الغم الذي أدخلتموه على الرسول والمؤمنين بفشلكم ، أو فأثابكم الرسول ، أي : آساكم غما بسبب غم اغتممتموه لأجله . والثاني : أن تكون الباء للمصاحبة أي : غما مصاحبا لغم ، ويكون الغمان للصحابة ، فالغم الأول الهزيمة والقتل . والثاني : إشراف خالد بخيل الكفار ، أو بإرجاف قتل الرسول عليه السلام ، فعلى الأول تتعلق الباء بـ " أثابكم " . قال أبو البقاء : " وقيل : المعنى بسبب غم ، فيكون مفعولا به " . وعلى الثاني تتعلق بمحذوف ، لأنه صفة لغم ، أي : غما مصاحبا لغم ، أو ملتبسا بغم . وأجاز أبو البقاء أن تكون الباء بمعنى " بعد "أو بمعنى " بدل " ، وجعلها في هذين الوجهين صفة لـ غما " ، وكونها بمعنى "بعد " و "بدل " بعيد ، وكأنه يريد تفسير المعنى ، وكذا قال الزمخشري : "غما بعد غم " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فأثابكم هل هو حقيقة أو مجاز ؟ فقيل : مجاز ، كأنه جعل الغم قائما مقام الثواب الذي كان يحصل لولا الفرار ، فهو كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1469 - أخاف زيادا أن يكون عطاؤه     أداهم سودا أو محدرجة سمرا



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 443 ] وقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1470 - ... ... ... ...     تحية بينهم ضرب وجيع



                                                                                                                                                                                                                                      جعل القيود والسياط بمنزلة العطاء ، والضرب بمنزلة التحية . وقال الفراء : "الإثابة هنا بمعنى المعاقبة ، وهو يرجع إلى المجاز " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : لكيلا هذه لام "كي " ، وهي لام جر ، والنصب هنا بـ "كي " لئلا يلزم دخول حرف جر على مثله . وفي متعلق هذه اللام قولان ، أحدهما : أنه "فأثابكم " ، وفي "لا " على هذا وجهان ، أحدهما : أنها زائدة ، لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحزن ، والمعنى : أنه غمهم ليحزنهم عقوبة لهم على تركهم مواقعهم ، قاله أبو البقاء . الوجه الثاني : أنها ليست زائدة ، فقال الزمخشري : "معناه : لكي لا تحزنوا لتتمرنوا على تجرع الغموم ، وتضروا باحتمال الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ، ولا على مصيب في المضار " وقال ابن عطية : "المعنى : أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم ، فأنتم ورطتم أنفسكم ، وعادة البشر أن يصبر للعقوبة إذا جنى ، وإنما يكثر قلقه إذا ظن البراءة من نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أن اللام تتعلق بـ " عفا "لأن عفوه أذهب كل حزن . وفيه بعد من جهة طول الفصل .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية