الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 399 ] 412 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدايا الكفار إليه من قبول منه لها ومن رد منه إياها .

2567 - حدثنا عبيد الله بن عبيد بن عمران الأردني أبو أيوب بطبرية قال : حدثنا خلف بن هشام المقرئ البزار قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أبي التياح ، عن الحسن ، عن عياض بن حمار قال : وكان حرمي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية فأهدى له هدية فردها وقال : إنا لا نقبل زبد المشركين .

[ ص: 400 ] وحدثنا عبيد الله بن عبيد قال : حدثنا خلف بن هشام قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن ابن عون قال : سألت الحسن ما زبد المشركين ؟ قال : رفدهم .

2568 - وحدثنا إبراهيم بن أبي داود قال : حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال : حدثنا أبو التياح قال : حدثني الحسن أن عياض بن حمار ، وكان حرمي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بناقة يهديها إليه ، فلما رآها قال : يا عياض ما هذه ؟ قال : أهديتها لك قال : قدها فقادها قال : ردها فردها قال : يا عياض هل أسلمت بعد ؟ قال : لا قال : فلم يقبلها وقال : [ ص: 401 ] إن الله حرم علينا زبد المشركين . قال : والعرب تسمي الهدية الزبد .

قال أبو عبيدة : الحرمي يكون من أهل الحرم ويكون الصديق أيضا يقال له : حرمي .

2569 - وحدثنا موسى بن الحسن بن عبد الله البغدادي المعروف بالصقلي قال : حدثنا محمد بن عباد المكي قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل ، عن بشير بن المهاجر ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال : أهدى أمير القبط لرسول الله صلى الله عليه وسلم جاريتين أختين قبطيتين وبغلة ، فأما البغلة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركبها ، وأما إحدى الجاريتين فتسراها فولدت له إبراهيم ، وأما الأخرى فأعطاها حسان بن ثابت الأنصاري .

[ ص: 402 ]

2570 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال : حدثنا عبد الله بن وهب قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب قال : حدثني عبد الرحمن بن عبد القاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية يعني بكتابه معه إليه ، فقبل كتابه وأكرم حاطبا وأحسن نزله ، ثم سرحه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأهدى له مع حاطب كسوة وبغلة بسرجها وجاريتين : إحداهما أم إبراهيم ، وأما الأخرى فوهبها لجهم بن قيس العبدري ، فهي أم زكريا بن جهم الذي كان خليفة لعمرو بن العاص على مصر .

قال أبو جعفر : وإنما أدخلنا هذا الحديث في هذا الباب لأن عبد الرحمن بن عبد القاري ممن ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ويقال : إنه قد رآه فدخل بذلك في صحابته صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 403 ] [ ص: 404 ] فسأل سائل عن الوجه الذي به رد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عياض هديته ، وعن الوجه الذي به قبل من المقوقس هديته وكلاهما كافر .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه أن كفر عياض كان كفر شرك بالله عز وجل وجحود للبعث من بعد الموت ، وكفر المقوقس لم يكن كذلك لأنه كان مقرا بالبعث من بعد الموت ومؤمنا بنبي من أنبياء الله عز وجل وهو عيسى صلى الله عليه وسلم ، وكان عياض ومن كان على مثل ما كان عليه مطلوبين بالزوال عن ما هم عليه وبتركه إلى ضده وهو التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والإيمان به .

وكان المقوقس ومن سواه من أهل الكتاب مطلوبين بالتصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والإيمان به ، والثبوت على ما هم عليه من دين عيسى صلى الله عليه وسلم ، وكان عياض ومن كان على مثل ما كان عليه غير مأكولة ذبائحهم ولا منكوحة نساؤهم ، وكان المقوقس ومن كان على مثل ما كان عليه مأكولة ذبائحهم ومنكوحة نساؤهم ، فكان الفريقان وإن كانوا جميعا من أهل الكفر يختلف كفرهم وتتباين أحكامهم ، وكان كل شرك بالله عز وجل كفرا ، وليس كل كفر بالله عز وجل شركا ، وكان الله عز وجل قد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن بقوله جل وعز : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن .

[ ص: 405 ] فدخل في ذلك المقوقس ومن كان على مثل ما كان عليه من التمسك بالكتاب الذي أنزل على عيسى صلى الله عليه وسلم ، وكان المشركون الذين يجحدون كتب الله عز وجل التي أنزلها على أنبيائه صلوات الله عليهم بخلاف ذلك ، فقبل هدية من أمره ربه عز وجل أن لا يجادله إلا بالتي هي أحسن ؛ لأن الأحسن قبول هديته منه ، ورد هدايا المشركين ؛ لأنهم بخلاف ذلك ، ولأن ربه عز وجل أمره بمنابذتهم وبقتالهم حتى يكون الدين كله لله عز وجل ، وفصل بينهم عز وجل في كتابه فخالف بين أسمائهم وبين ما نسبهم إليه فقال : إن الذين آمنوا والذين هادوا وهم اليهود ، والصابئين وهم أمة بين اليهود والنصارى ، لهم أحكام سنأتي بها في غير هذا الموضع من كتابنا هذا إن شاء الله ، والنصارى وهم الذين منهم المقوقس ، والمجوس وهم مشركو العجم الذين لا يقرون ببعث ولا يؤمنون بكتاب من كتب الله عز وجل التي أنزلها على أنبيائه وهم في العجم كعبدة الأوثان في العرب ، إلا فيما يخالفونهم فيه من أخذ الجزية منهم لما قد ذكرناه في ذلك مما قد تقدم منا في كتابنا هذا ، والذين أشركوا وهم عبدة الأوثان من العرب الذين لا يقرون ببعث ولا يؤمنون بكتاب من كتب الله عز وجل ، وكذلك كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع من تفريقه بين هذين الفريقين في الأسماء ، وفي الأحكام .

2571 - كما قد حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا عبد الله بن وهب قال : حدثني الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة ، عن سليمان بن عبد الرحمن ، عن القاسم أبي عبد الرحمن ، [ ص: 406 ] عن أبي أمامة الباهلي قال : شهدت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع فقال قولا كثيرا حسنا جميلا ، وكان فيها : من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين ، وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا ، ومن أسلم من المشركين فله أجره وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا .

فكان فيما تلونا من كتاب الله عز وجل ، وفيما روينا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد دل على تباين الفريقين اللذين ذكرنا في الكفر الذي هم عليه ، وفي منابذة أهل الشرك منهما ، وفي أن لا يجادل أهل الكتاب منهم إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ، وفي ذلك ما قد دل على اتساع قبوله هداياهم منهم ، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية من قبل هديته منهم لذلك ، ورد هدية من رد هديته عليه من الفريق الآخر للأسباب التي فيه مما ذكرناها في هذا الباب والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية