الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ( 54 ) إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون ( 55 ) )

يقول - تعالى ذكره - ( فاليوم ) يعني يوم القيامة ( لا تظلم نفس شيئا ) كذلك ربنا لا يظلم نفسا شيئا ، فلا يوفيها جزاء عملها الصالح ، ولا يحمل عليها وزر غيرها ، ولكنه يوفي كل نفس أجر ما عملت من صالح ، ولا يعاقبها إلا بما اجترمت واكتسبت من شيء ( ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ) يقول : ولا تكافئون إلا مكافأة أعمالكم التي كنتم تعملونها في الدنيا .

وقوله ( إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون ) اختلف أهل التأويل في معنى الشغل الذي وصف الله - جل ثناؤه - أصحاب الجنة أنهم فيه يوم القيامة ، فقال بعضهم : ذلك افتضاض العذارى .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد قال : ثنا يعقوب ، عن حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية ، عن شقيق بن سلمة ، عن عبد الله بن مسعود في قوله ( إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون ) قال : شغلهم افتضاض العذارى .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، عن أبي عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ( إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون ) قال : افتضاض الأبكار .

حدثني عبيد بن أسباط بن محمد قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، [ ص: 535 ] عن عكرمة ، عن ابن عباس ( إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون ) قال : افتضاض الأبكار .

حدثني الحسن بن زريق الطهوي قال : ثنا أسباط بن محمد ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله .

حدثني الحسين بن علي الصدائي قال : ثنا أبو النضر ، عن الأشجعي ، عن وائل بن داود ، عن سعيد بن المسيب في قوله ( إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون ) قال : في افتضاض العذارى وقال آخرون : بل عني بذلك : أنهم في نعمة .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله ( إن أصحاب الجنة اليوم في شغل ) قال : في نعمة .

حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال : ثنا مروان ، عن جويبر ، عن أبي سهل ، عن الحسن في قول الله ( إن أصحاب الجنة ) . . الآية قال : شغلهم النعيم عما فيه أهل النار من العذاب .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنهم في شغل عما فيه أهل النار .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال : ثنا أبي ، عن شعبة ، عن أبان بن تغلب ، عن إسماعيل بن أبي خالد ( إن أصحاب الجنة ) . . . الآية قال : في شغل عما يلقى أهل النار .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله - جل ثناؤه - ( إن أصحاب الجنة ) وهم أهلها ( في شغل فاكهون ) بنعم تأتيهم في شغل ، وذلك الشغل الذي هم فيه نعمة ، وافتضاض أبكار ، ولهو ولذة ، وشغل عما يلقى أهل النار .

وقد اختلفت القراء في قراءة قوله ( في شغل ) فقرأت ذلك عامة قراء المدينة وبعض البصريين على اختلاف عنه : ( في شغل ) بضم الشين وتسكين [ ص: 536 ] الغين . وقد روي عن أبي عمرو الضم في الشين والتسكين في الغين ، والفتح في الشين والغين جميعا في شغل . وقرأ ذلك بعض أهل المدينة ، والبصرة ، وعامة قراء أهل الكوفة ( في شغل ) بضم الشين والغين .

والصواب في ذلك عندي قراءته بضم الشين والغين ، أو بضم الشين وسكون الغين ، بأي ذلك قرأه القارئ فهو مصيب ، لأن ذلك هو القراءة المعروفة في قراء الأمصار مع تقارب معنييهما . وأما قراءته بفتح الشين والغين ، فغير جائزة عندي ، لإجماع الحجة من القراء على خلافها .

واختلفوا أيضا في قراءة قوله ( فاكهون ) فقرأت ذلك عامة قراء الأمصار ( فاكهون ) بالألف . وذكر عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرؤه : ( فكهون ) بغير ألف .

والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأه بالألف ، لأن ذلك هو القراءة المعروفة .

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فرحون .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( في شغل فاكهون ) يقول : فرحون .

وقال آخرون : معناه : عجبون .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله ( فاكهون ) قال : عجبون .

حدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( فكهون ) قال : عجبون .

[ ص: 537 ] واختلف أهل العلم بكلام العرب في ذلك ، فقال بعض البصريين : منهم الفكه الذي يتفكه . وقال : تقول العرب للرجل الذي يتفكه بالطعام أو بالفاكهة ، أو بأعراض الناس : إن فلانا لفكه بأعراض الناس قال : ومن قرأها ( فاكهون ) جعله كثير الفواكه صاحب فاكهة ، واستشهد لقوله ذلك ببيت الحطيئة :


ودعوتني وزعمت أنك لابن بالصيف تامر



أي عنده لبن كثير ، وتمر كثير ، وكذلك عاسل ، ولاحم ، وشاحم . وقال بعض الكوفيين : ذلك بمنزلة حاذرون وحذرون ، وهذا القول الثاني أشبه بالكلمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية