الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إنهم جاءوا من عند إبراهيم إلى لوط على صورة البشر فظنهم بشرا فخاف عليهم من قومه لأنهم كانوا على أحسن صورة خلق الله ، والقوم كما عرف حالهم ، فسيء بهم أي : جاءه ما ساءه وخاف ثم عجز عن تدبيرهم فحزن وضاق بهم ذرعا كناية عن العجز في تدبيرهم ، قال الزمخشري : يقال طال ذرعه وذراعه للقادر وضاق للعاجز ، وذلك لأن من طال ذراعه يصل إلى ما لا يصل إليه قصير الذراع والاستعمال يحتمل وجها معقولا غير ذلك ، وهو أن الخوف والحزن يوجبان انقباض الروح ويتبعه اشتمال القلب عليه فينقبض هو أيضا ، والقلب هو المعتبر من الإنسان ، فكأن الإنسان انقبض وانجمع وما يكون كذلك يقل ذرعه ومساحته فيضيق ، ويقال في الحزين ضاق ذرعه ، والغضب والفرح يوجبان انبساط الروح فينبسط مكانه وهو القلب ويتسع فيقال : [ ص: 55 ] اتسع ذرعه ، ثم إن الملائكة لما رأوا خوفه في أول الأمر وحزنه بسبب تدبيرهم في ثاني الأمر قالوا لا تخف علينا ولا تحزن بسبب التفكر في أمرنا ثم ذكروا ما يوجب زوال خوفه وحزنه فإن مجرد قول القائل لا تخف لا يوجب زوال الخوف فقالوا معرضين بحالهم : ( إنا منجوك وأهلك ) وإنا منزلون عليهم العذاب حتى يتبين له أنهم ملائكة فيطول ذرعه ويزول روعه وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            إحداها : أنه تعالى قال من قبل : ( ولما جاءت رسلنا إبراهيم ) وقال ههنا : ( ولما أن جاءت رسلنا ) فما الحكمة فيه ؟ فنقول : حكمة بالغة وهي أن الواقع في وقت المجيء هناك قول الملائكة : ( إنا مهلكو ) وهو لم يكن متصلا بمجيئهم لأنهم بشروا أولا ولبثوا ، ثم قالوا : إنا مهلكوا وأيضا فالتأني واللبث بعد المجيء ، ثم الإخبار بالإهلاك حسن فإن من جاء ومعه خبر هائل يحسن منه أن لا يفاجىء به ، والواقع ههنا هو خوف لوط عليهم ، والمؤمن حين ما يشعر بمضرة تصل بريئا من الجناية ينبغي أن يحزن ويخاف عليه من غير تأخير ،إذا علم هذا فقوله ههنا : ( ولما أن جاءت رسلنا ) يفيد الاتصال يعني خاف حين المجيء ، فإن قلت : هذا باطل بما أن هذه الحكاية جاءت في سورة هود ، وقال : ( ولما جاءت رسلنا لوطا ) من غير ( أن ) ، فنقول هناك جاءت حكاية إبراهيم بصيغة أخرى حيث قال هناك : ( ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ) فقوله هنالك : ( ولقد جاءت ) لا يدل على أن قولهم : ( إنا أرسلنا ) كان في وقت المجيء . وقوله : ( ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم ) دل على أن حزنه كان وقت المجيء .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا علم هذا فنقول : هناك قد حصل ما ذكرنا من المقصود بقوله في حكاية إبراهيم : ( ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ) ثم جرى أمور من الكلام وتقديم الطعام ، ثم قالوا : ( لا تخف ولا تحزن ) ( إنا أرسلنا إلى قوم لوط ) فحصل تأخير الإنذار ، وبقوله في حكاية لوط ( ولما جاءت رسلنا ) حصل بيان تعجيل الحزن ، وأما هنا لما قال في قصة إبراهيم : ( ولما جاءت ) قال في حكاية لوط ( ولما أن جاءت ) لما ذكرنا من الفائدة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال هنا ( إنا منجوك وأهلك ) وقال لإبراهيم ( لننجينه ) بصيغة الفعل فهل فيه فائدة ؟ قلنا ما من حرف ولا حركة في القرآن إلا وفيه فائدة ، ثم إن العقول البشرية تدرك بعضها ولا تصل إلى أكثرها ، وما أوتي البشر من العلم إلا قليلا ، والذي يظهر لعقل الضعيف أن هناك لما قال لهم إبراهيم : ( إن فيها لوطا ) وعدوه بالتنجية ووعد الكريم حتم ، وههنا لما قالوا للوط وكان ذلك بعد سبق الوعد مرة أخرى قالوا : ( إنا منجوك ) أي ذلك واقع منا كقوله تعالى : ( إنك ميت ) (الزمر : 30 ) لضرورة وقوعه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة :قولهم : ( لا تخف ولا تحزن ) لا يناسبه ( إنا منجوك ) لأن خوفه ما كان على نفسه ، نقول بينهما مناسبة في غاية الحسن ، وهي أن لوطا لما خاف عليهم وحزن لأجلهم قالوا له : لا تخف علينا ولا تحزن لأجلنا فإنا ملائكة ، ثم قالوا له : يا لوط خفت علينا وحزنت لأجلنا ، ففي مقابلة خوفك وقت الخوف نزيل خوفك وننجيك ، وفي مقابلة حزنك نزيل حزنك ولا نتركك تفجع في أهلك فقالوا : ( إنا منجوك وأهلك ) .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : القوم عذبوا بسبب ما صدر منهم من الفاحشة وامرأته لم يصدر منها تلك فكيف كانت من الغابرين معهم ؟ فنقول الدال على الشر له نصيب كفاعل الشر ، كما أن الدال على الخير كفاعله وهي كانت تدل القوم على ضيوف لوط حتى كانوا يقصدونهم ، فبالدلالة صارت واحدة منهم ، ثم إنهم بعد بشارة [ ص: 56 ] لوط بالتنجية ذكروا أنهم منزلون على أهل هذه القرية العذاب فقالوا : ( إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء ) واختلفوا في ذلك ، فقال بعضهم : حجارة وقيل : نار ، وقيل : خسف ، وعلى هذا فلا يكون عينه من السماء وإنما يكون الأمر بالخسف من السماء أو القضاء به من السماء ، ثم اعلم أن كلام الملائكة مع لوط جرى على نمط كلامهم مع إبراهيم قدموا البشارة على الإنذار حيث قالوا : ( إنا منجوك ) ثم قالوا : ( إنا منزلون على أهل هذه القرية ) ولم يعللوا التنجية ، فما قالوا إنا منجوك لأنك نبي أو عابد ، وعللوا الإهلاك بقولهم : ( بما كانوا يفسقون ) وقالوا : بما كانوا ، كما قالوا هناك : ( إن أهلها كانوا ظالمين ) ثم قال تعالى : ( ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون ) أي من القرية فإن القرية معلومة وفيها الماء الأسود وهي بين القدس والكرك وفيها مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            إحداها : جعل الله الآية في نوح وإبراهيم بالنجاة حيث قال : ( فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية ) (العنكبوت : 15 ) وقال : ( فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات ) (العنكبوت : 24 ) وجعل ههنا الهلاك آية فهل عندك فيه شيء ؟ نقول نعم ، أما إبراهيم فلأن الآية كانت في النجاة لأن في ذلك الوقت لم يكن إهلاك ، وأما في نوح فلأن الإنجاء من الطوفان الذي علا الجبال بأسرها أمر عجيب إلهي ، وما به النجاة وهو السفينة كان باقيا ، والغرق لم يبق لمن بعده أثره فجعل الباقي آية ، وأما ههنا فنجاة لوط لم يكن بأمر يبقى أثره للحس ، والهلاك أثره محسوس في البلاد فجعل الآية الأمر الباقي وهو ههنا البلاد وهناك السفينة ، وههنا لطيفة : وهي أن الله تعالى آية قدرته موجودة في الإنجاء والإهلاك فذكر من كل باب آية وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة وأخر آيات الإهلاك لأنها أثر الغضب ورحمته سابقة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال في السفينة : ( وجعلناها آية ) ولم يقل : بينة وقال ههنا آية بينة نقول لأن الإنجاء بالسفينة أمر يتسع له كل عقل وقد يقع في وهم جاهل أن الإنجاء بالسفينة لا يفتقر إلى أمر آخر ، وأما الآية ههنا الخسف وجعل ديار معمورة عاليها سافلها وهو ليس بمعتاد ، وإنما ذلك بإرادة قادر يخصصه بمكان دون مكان وفي زمان دون زمان ، فهي بينة لا يمكن لجاهل أن يقول : هذا أمر يكون كذلك وكان له أن يقول في السفينة : النجاة بها أمر يكون كذلك إلى أن يقال له : فمن أين علم أنه يحتاج إليها ولو دام الماء حتى ينفد زادهم كيف كان يحصل لهم النجاة ؟ ولو سلط الله عليهم الريح العاصفة كيف يكون أحوالهم ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال هناك للعالمين وقال ههنا : ( لقوم يعقلون ) قلنا لأن السفينة موجودة في جميع أقطار العالم فعند كل قوم مثال لسفينة نوح يتذكرون بها حاله ، وإذا ركبوها يطلبون من الله النجاة ولا يثق أحد بمجرد السفينة ، بل يكون دائما مرتجف القلب متضرعا إلى الله تعالى طلبا للنجاة ، وأما أثر الهلاك في بلاد لوط ففي موضع مخصوص لا يطلع عليه إلا من يمر بها ويصل إليها ويكون له عقل يعلم أن ذلك من الله المريد ، بسبب اختصاصه بمكان دون مكان ووجوده في زمان بعد زمان .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية