الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (157) قوله تعالى : ولئن قتلتم : اللام هي الموطئة لقسم [ ص: 457 ] محذوف ، وجوابه قوله : لمغفرة وحذف جواب الشرط لسد جواب القسم مسده لكونه دالا عليه ، وهو الذي عناه الزمخشري بقوله : "وهو ساد مسد جواب الشرط " ولا يعني بذلك أنه من غير حذف . واللام لام الابتداء ، وهي وما بعدها جواب القسم كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      و "مغفرة " فيها وجهان ، أظهرهما : أنها مرفوعة بالابتداء ، والمسوغات هنا كثيرة : لام الابتداء والعطف عليها في قوله : ورحمة ووصفها ، فإن قوله : من الله صفة لها ، ويتعلق حينئذ بمحذوف ، و خير خبر عنها . والثاني : أن تكون مرفوعة على خبر ابتداء مضمر ، إذا أريد بالمغفرة والرحمة القتل أو الموت في سبيل الله ، لأنهما مقترنان بالموت في سبيل الله ، فيكون التقدير : فذلك - أي الموت أو القتل في سبيل الله - مغفرة ورحمة خير ، ويكون "خير " صفة لا خبرا ، وإلى هذا نحا ابن عطية فإنه قال : "وتحتمل الآية أن يكون قوله : لمغفرة إشارة إلى الموت أو القتل في سبيل الله ، فسمى ذلك مغفرة ورحمة ، إذ هما مقترنان به ، ويجيء التقدير : فذلك مغفرة ورحمة ، وترتفع المغفرة على خبر الابتداء المقدر ، وقوله : " خير "صفة لا خبر ابتداء " انتهى . ولكن الوجه الأول أظهر ، و "خير " هنا على بابها من كونها للتفضيل ، وعن ابن عباس : "خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ورحمة أي : ورحمة من الله ، فحذفت صفتها لدلالة الأولى عليها ، ولا بد من حذف آخر مصحح للمعنى ، تقديره : لمغفرة من الله لكم ورحمة منه لكم . وجاء بالمغفرة والرحمة نكرتين إيذانا بأن أدنى خير وأقل [ ص: 458 ] شيء خير من الدنيا وما فيها الذي يجمعونه ، وهو نظير ورضوان من الله أكبر ، والتنكير قد يشعر بالتقليل ، و "ما " في قوله مما يجمعون موصولة اسمية والعائد محذوف ، ويجوز أن تكون مصدرية ، وعلى هذا فالمفعول محذوف أي : من جمعكم المال ونحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      آ . (158) وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم : متم و مت : وبابه بضم الميم ، ووافقهم حفص هنا خاصة في الموضعين ، والباقون بالكسر . فأما الضم فلأنه فعل بفتح العين من ذوات الواو ، وكل ما كان كذلك فقياسه إذا أسند إلى ياء المتكلم وأخواتها أن تضم فاؤه : إما من أول وهلة ، وإما بأن نبدل الفتحة ضمة ثم ننقلها إلى الفاء على اختلاف بين التصريفيين ، فيقال في "قام " وقال وطال : قمت وقمنا وقمن وطلت وطلن وما أشبه ، ولهذا جاء مضارعه على يفعل نحو : يموت . وأما الكسر فالصحيح من قول أهل العربية أنه من لغة من يقول : مات يمات كخاف يخاف ، والأصل : موت بكسر العين كخوف فجاء مضارعه على يفعل بفتح العين . قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1479 - بنيتي سيدة البنات عيشي ولا يؤمن أن تماتي



                                                                                                                                                                                                                                      فجاء بمضارعه على يفعل بالفتح ، فعلى هذه اللغة يلزم أن يقال في الماضي المسند إلى التاء وإحدى أخواتها : "مت " بالكسر ليس إلا ، وهو أنا [ ص: 459 ] نقلنا حركة الواو إلى الفاء بعد سلب حركتها دلالة على بنية الكلمة في الأصل . وهذا أولى من قول من يقول : إن "مت " بالكسر مأخوذ من لغة من يقول : "يموت " بالضم في المضارع ، وجعلوا ذلك شاذا في القياس كثيرا في الاستعمال كالمازني وأبي علي الفارسي ، ونقله بعضهم عن سيبويه صريحا ، وإذا ثبت ذلك لغة فلا معنى إلى ادعاء الشذوذ فيه . وأما حفص فجمع بين اللغتين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجماعة : "تجمعون " بالخطاب جريا على قوله : " ولئن قتلتم " ، وحفص بالغيبة : إما على الرجوع على الكفار المتقدمين ، وإما على الالتفات من خطاب المؤمنين .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه ثلاثة مواضع : تقدم الموت على القتل في الأول منها وفي الأخير ، والقتل على الموت في المتوسط ، وذلك أن الأول لمناسبة ما قبله من قوله : إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى فرجع الموت لمن ضرب في الأرض ، والقتل لمن غزا ، وأما الثاني فلأنه محل تحريض على الجهاد فقدم الأهم الأعرف ، وأما الآخر فلأن الموت أغلب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : لإلى الله اللام جواب القسم فهي داخلة على تحشرون ، و "إلى الله " متعلق به ، وإنما قدم للاختصاص أي : إلى الله لا إلى غيره يكون حشركم ، أو للاهتمام ، وحسنه كونه فاصلة ، ولولا الفصل لوجب توكيد الفعل بنون ، لأن المضارع المثبت إذا كان مستقبلا وجب توكيده مع اللام خلافا للكوفيين ، حيث يجيزون التعاقب بينهما ، كقوله :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 460 ]

                                                                                                                                                                                                                                      1480 - وقتيل مرة أثأرن فإنه      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      فجاء بالنون دون اللام ، وقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1481 - لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم     ليعلم ربي أن بيتي واسع



                                                                                                                                                                                                                                      فجاء باللام دون النون ، والبصريون يجعلونه ضرورة . فإن فصل بين اللام بالمعمول كهذه الآية أو بـ "قد " نحو : "والله قد أقوم " وقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1482 - كذبت لقد أصبي على المرء عرسه      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      أو بحرف تنفيس نحو : ولسوف يعطيك فلا يجوز توكيده حينئذ بالنون . قال الفارسي : "دخلت النون فرقا بين لام اليمين ولام الابتداء ، ولام الابتداء لا تدخل على الفضلة ، فبدخول لام اليمين على الفضلة حصل الفرق فلم يحتج إلى النون ، وبدخولها على " سوف "حصل الفرق أيضا فلا حاجة إلى النون ، ولام الابتداء لا تدخل على الفعل إلا إذا كان حالا ، أما مستقبلا فلا " .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية