الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (159) قوله تعالى : فبما : في "ما " وجهان ، أحدهما : أنها [ ص: 461 ] زائدة للتوكيد والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله ، ونظيره : فبما نقضهم ميثاقهم . والثاني : أنها غير مزيدة ، بل هي نكرة وفيها وجهان ، أحدهما : أنها موصوفة برحمة ، أي : فبشيء رحمة والثاني : أنها غير موصوفة ، و "رحمة " بدل منها ، نقله مكي عن ابن كيسان . ونقل أبو البقاء عن الأخفش وغيره أنها نكرة غير موصوفة ، و "رحمة " بدل منها ، كأنه أبهم ثم بين بالإبدال . وجوز بعض الناس - وعزاه الشيخ لابن خطيب الري - أن "ما " استفهامية للتعجب تقديره : فبأي رحمة لنت لهم ، وذلك فإن جنايتهم لما كانت عظيمة - ثم إنه ما أظهر تغليظا في القول ولا خشونة في الكلام - علموا أن ذلك لا يتأتى إلا بتأييد رباني قبل ذلك . ورد عليه الشيخ هذا بأنه لا يخلو : إما أن تجعل "ما " مضافة إلى "رحمة " ، وهو ظاهر تقديره كما حكاه عنه ، فيلزم إضافة "ما " الاستفهامية ، وقد نصوا على أنه لا يضاف من أسماء الاستفهام إلا "أي " اتفاقا ، و "كم " عند الزجاج ، وإما أن لا تجعلها مضافة ، فتكون "رحمة " بدلا منها ، وحينئذ يلزم إعادة حرف الاستفهام في البدل كما تقرر في علم النحو ، وأنحى عليه في كلامه فقال : "وليته كان يغنيه عن هذا الارتباك والتسلق إلى ما لا يحسنه قول الزجاج في " ما "هذه إنها صلة فيها معنى التوكيد بإجماع النحويين " انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وليس لقائل أن يقول له : أن يجعلها غير مضافة ولا يجعل "رحمة " بدلا [ ص: 462 ] حتى يلزم إعادة حرف الاستفهام بل يجعلها صفة ؛ لأن "ما " الاستفهامية لا توصف ، وكأن من يدعي فيها أنها غير مزيدة يفر من هذه العبارة في كلام الله تعالى ، وإليه ذهب أبو بكر الزبيدي ، كان لا يجوز أن يقال في القرآن : "هذا زائد " أصلا . وهذا فيه نظر ، لأن القائلين بكون هذا زائدا لا يعنون أنه يجوز سقوطه ولا أنه مهمل لا معنى له ، بل يقولون : زائد للتوكيد ، فله أسوة بسائر ألفاظ التوكيد الواقعة في القرآن ، و "ما " كما تزاد بين الباء ومجرورها تزاد أيضا بين "عن " و "من " والكاف ومجرورها كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مكي : "ويجوز أن ترتفع " رحمة "على أن تجعل " ما "بمعنى الذي ، وتضمر " هو "في الصلة وتحذفها كما قرئ : تماما على الذي أحسن . وقوله : "ويجوز " يعني من حيث الصناعة ، وأما كونها قراءة فلا أحفظها .

                                                                                                                                                                                                                                      والفظاظة : الجفوة في المعاشرة قولا وفعلا . قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1483 - أخشى فظاظة عم أو جفاء أخ وكنت أخشى عليها من أذى الكلم



                                                                                                                                                                                                                                      والغـلظ : تكثير الأجزاء ، ثم تجوز به في عدم الشفقة وكثرة القسوة في القلب قال :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 463 ]

                                                                                                                                                                                                                                      1484 - يبكى علينا ولا نبكي على أحد     لنحن أغلظ أكبادا من الإبل



                                                                                                                                                                                                                                      وقال الراغب : الفظ كريه الخلق وذلك مستعار من الفظ وهو ماء الكرش ، وذلك مكروه شربه إلا في ضرورة " ، قال : " الغلظة : ضد الرقة ، ويقال : غلظة وغلظة أي بالكسر والضم "وعن الغلظة تنشأ الفظاظة فلم قدمت ؟ فقيل : قدم ما هو ظاهر للحس على ما هو خاف في القلب ، لأنه كما تقدم أن الفظاظة : الجفوة في العشرة قولا وفعلا ، والغلظ : قساوة القلب ، وهذا أحسن من قول من جعلهما بمعنى ، وجمع بينهما تأكيدا .

                                                                                                                                                                                                                                      والانفضاض : التفرق في الأجزاء وانتشارها ومنه : " فض ختم الكتاب "ثم استعير عنه " انفضاض الناس "ونحوهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فاعف عنهم إلى آخره جاء على أحسن النسق ، وذلك أنه أمر أولا بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه ، فإذا انتهوا إلى هذا المقام أمر أن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى لتنزاح عنهم التبعتان ، فلما صاروا إلى هذا أمر بأن يشاورهم في الأمر إذا صاروا خالصين من التبعتين مصفين منهما ، والأمر هنا وإن كان عاما فالمراد به الخصوص ، قال أبو البقاء : " إذ لم يؤمر بمشاورتهم في الفرائض ، ولذلك قرأ ابن عباس : "في بعض الأمر " . وهذا تفسير لا تلاوة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فإذا عزمت الجمهور على فتح التاء خطابا له عليه السلام . وقرأ عكرمة وجعفر الصادق بضمها ، على أنها لله تعالى على معنى : فإذا [ ص: 464 ] أرشدتك إليه وجعلتك تقصده ، وجاء قوله : على الله من الالتفات ، إذ لو جاء على نسق هذا الكلام لقيل : فتوكل علي ، وقد نسب العزم إليه تعالى في قول أم سلمة : " ثم عزم الله لي " وذلك على سبيل المجاز .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : إن الله يحب المتوكلين جار مجرى العلة الباعثة على التوكيل عند الأخذ في كل الأمر .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية