الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 278 ] وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وآتوا : أعطوا ، اليتامى جمع يتيم وهو من الناس من فقد أباه قبل بلوغه السن التي يستغني فيها عن كفالته ، ومن الحيوان من فقد أمه صغيرا ; لأن إناث الحيوان هي التي تكفل صغارها . وكل منفرد يتيم ، ومنه الدرة اليتيمة ، ولم ينقل من جمع فعيل على فعالى ما يعدونه به مقياسا ; ولذلك قيل : إن لفظ " يتيم " قد جمع هذا الجمع لأنه أجري مجرى الأسماء إلى آخر ما قالوا ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب أي لا تأخذوا الخبيث فتجعلوه بدلا من الطيب . يقال تبدل الشيء بالشيء . واستبدله به إذا أخذ الأول بدلا من الثاني الذي دخلت عليه الباء بعد أن كان حاصلا له ، أو في شرف الحصول ومظنته ، يستعملان دائما بالتعدي إلى المأخوذ بأنفسهما ، وإلى المتروك بالباء كما تقدم في قوله - تعالى - : أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير [ 2 : 61 ] وأما التبديل فيستعمل بالوجهين . والخبيث ما يكره رداءة وخساسة محسوسا كان أو معقولا ، من خبث الحديد وهو صدؤه ، قال الراغب : وأصله الرديء الدخلة الجاري مجرى خبث الحديد كما قال الشاعر :


                          سبكناه ونحسبه لجينا فأبدى الكير عن خبث الحديد



                          وذلك يتناول الباطل في الاعتقاد ، والكذب في المقال ، والقبيح في الفعال . ثم أورد الآيات في هذه المعاني المختلفة . قال : وأصل ( الطيب ) ما تستلذه الحواس وما تستلذه النفس .

                          أقول : وهو كمقابله يوصف به الشخص ، ومنه قوله - تعالى - : الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات ، والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات [ 24 : 26 ] والأشياء ومنه قوله - تعالى - : [ ص: 279 ] ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث [ 7 : 157 ] وقوله : والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا [ - 7 : 58 ] والأعمال ، ومنه الآية التي نفسرها في قول من قال : إن معناها ولا تتبدلوا العمل الخبيث بالعمل الطيب أن تجعلوه بدلا منه . ومنه مثل الكلمة الطيبة ، والكلمة الخبيثة في سورة إبراهيم ( 14 : 24 - 26 ) . و ( الحوب ) : الإثم ، ومصدره بفتح الحاء . وذكر الراغب أن الأصل فيه كلمة " حوب " لزجر الإبل . قال : وفلان يتحوب من كذا أي يتأثم . وقولهم : ألحق الله به أي المسكنة والحاجة ، وحقيقتها هي الحاجة التي تحمل صاحبها على ارتكاب الإثم ، والحوباء قيل : هي النفس ، وحقيقتها هي النفس المرتكبة للحوب اهـ . ويروى عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) تفسيره بالإثم وبالظلم . وفي الطبراني أن نافع بن الأزرق سأله عنه فقال : هو الإثم بلغة الحبشة . قال : فهل تعرف العرب ذلك ؟ نعم ، أما سمعت قول الأعشى :


                          فإني وما كلفتموني من أمركم     ليعلم من أمسى أعق وأحوبا



                          وحاب يحوب حوبا وحابا قال الزمخشري ، وهما كالقول والقال ، وقال القفال : أصله التحوب وهو التوجع ، فالحوب : ارتكاب ما يتوجع منه . و تقسطوا تعدلوا من الإقساط ، يقال : أقسط الرجل إذا عدل ، ويقال قسط إذا جار . قال - تعالى - : وأقسطوا إن الله يحب المقسطين [ 49 : 9 ] وقال : وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا [ 72 : 15 وكلاهما من القسط وهو العدل ، وقال : قل أمر ربي بالقسط ] 7 : 29 [ و يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط [ 4 : 135 ] والقسط في الأصل : النصيب بالعدل . وقالوا : قسط فلان بوزن جلس إذا أخذ قسط غيره ، ونصيبه . وقالوا : أقسط إذا أعطى غيره قسطه ونصيبه . كذا قال الراغب : والمشهور أن الهمزة في أقسط للسلب ، فقسط بمعنى : عدل ، وأقسط بمعنى : أزال القسط فلم يقمه ، كما يقال في شكا وأشكى ، فإن أشكاه بمعنى أزال شكواه . وقال في لسان العرب : كأن الهمزة للسلب .

                          فانكحوا معناه : فتزوجوا ، وتقدم في سورة البقرة في إطلاقه على العقد ، وعلى ما يقصد من العقد ، ولو بدونه . وقوله : مثنى وثلاث ورباع معناه : ثنتين ثنتين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا ، فتلك الألفاظ المفردة معدولة عن هذه الأعداد المكررة . ولما كان الخطاب للجمع حسن اختيار الألفاظ المعدولة الدالة على العدد المكرر ، وكانت من الإيجاز ليصيب كل من يريد الجمع من أفراد المخاطبين ثنتين فقط ، أو ثلاثا فقط ، أو أربعا فقط ، وليس بعد ذلك غاية في التعدد بشرطه . قال الزمخشري : كما تقول للجماعة اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم : درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، ولو أفردت لم يكن له معنى . أي [ ص: 280 ] لو قلت للجمع : اقتسموا المال الكثير درهمين لم يصح الكلام ، فإذا قلت : درهمين درهمين كان المعنى أن كل واحد يأخذ درهمين فقط لا أربعة دراهم .

                          قال : فإن قلت لم جاء العطف بالواو دون " أو " ؟ قلت كما جاء بالواو في المثال الذي حذوته لك ، ولو ذهبت تقول : اقتسموا هذا المال درهمين درهمين ، أو ثلاثة ثلاثة ، أو أربعة أربعة ، علمت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة ، وليس لهم أن يجمعوا بينها فيجعلوا بعض القسم على تثنية وبعضه على تثليث ، وبعضه على تربيع ، وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو . وتحريره أن الواو دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع إن شاءوا مختلفين في تلك الأعداد ، وإن شاءوا ومتفقين فيها محظورا عليهم ما وراء ذلك انتهى كلامه .

                          وهو ينقل ما ذهب إليه بعض الناس من دلالة العبارة على جواز جمع الواحد بين تسع نسوة ، وهو مجموع 2 و 3 و4 وبعض آخر على جواز الجمع بين 18 وهو مجموع ثنتين ثنتين ، وثلاث ثلاث ، وأربع أربع ، فإن قولك : وزع هذا المال على الفقراء قرشين قرشين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، معناه أعط بعضهم اثنين فقط ، وبعضهم ثلاثة فقط ، وبعضهم أربعة فقط ، وللموزع الخيار في التخصيص ، ولا يجوز له هذا النص أن يعطي أحدا منهم 9 قروش ، ولا 18 قرشا . واستدلال بعضهم على صحة ما قيل بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تسع نسوة ، وعقده على أكثر من ذلك لا يصح ; للإجماع على أن ذلك خصوصية له - صلى الله عليه وسلم - .

                          و تعولوا تجوروا ، وأصل العول : الميل ، يقولون : عال الميزان إذا مال ، وميزان عائل . وجعله بعضهم بمعنى كثرة العيال . ويروى عن الشافعي ( رضي الله عنه ) ويقال عال الرجل عياله : إذا مانهم وأنفق عليهم ، كأنه أراد لئلا يكثر من تعولون ، والأول أظهر في الآية .

                          و صدقاتهن جمع - صدقة بضم الدال - وهو الصداق بفتح الصاد ، وكسرها أي ما تعطى المرأة من مهرها ، وإيتاء النساء صدقاتهن يحتمل المناولة بالفعل ، ويحتمل الالتزام والتخصيص ، يقال : أصدقها ، وأمهرها بكذا إذا ذكر ذلك في العقد ، وإن لم يقبض .

                          وقوله : نحلة روي عن ابن عباس ، وغيره من السلف تفسيرها بالفريضة ، وفسرها بعضهم بالعطية والهبة . ووجهه أنه مال تأخذه بلا عوض مالي ، وجعلها الراغب مشتقة من النحل كأنها عطية كما يجني النحل . وهذا القول لا يعارض ما يدل عليه الأول من فرضية المهر ، وعدم جواز أكل شيء منه بدون رضا المرأة كما سيأتي .

                          الأستاذ الإمام : قلنا إن الكلام في أوائل هذه السورة في الأهل ، والأقارب ، والأزواج [ ص: 281 ] وهو يتسلسل في ذلك إلى قوله - تعالى - : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا [ 4 : 36 ] الآية ; ولذلك افتتحها بالتذكير بالقرابة ، والأخوة العامة ، وهي كون الأمة من نفس واحدة ، ثم طفق يبين حقوق الضعفاء من الناس كاليتامى ، والنساء ، والسفهاء ، ويأمر بالتزامها ، فقال : وآتوا اليتامى أموالهم واليتيم لغة : من مات أبوه مطلقا ، وفي عرف الفقهاء من مات أبوه وهو صغير ، فمتى بلغ زال يتمه إلا إذا بلغ سفيه ، فإنه يبقى حكم اليتيم ، ولا يزول عنه الحجر . ومعنى إيتاء اليتامى أموالهم هو جعلها لهم خاصة ، وعدم أكل شيء منها بالباطل ، أي أنفقوا عليهم من أموالهم حتى يزول يتمهم بالرشد كما سيأتي في آية : وابتلوا اليتامى فعند ذلك يدفع إليهم ما بقي لهم بعد النفقة عليهم في زمن اليتم والقصور ، فهذه الآية في إعطاء اليتامى أموالهم في حالتي اليتم ، والرشد ، كل حالة بحسبها ، وتلك خاصة بحال الرشد . وليس في هذه تجوز كما قالوا ، فإن نفقة ولي اليتيم عليه من ماله يصدق عليه أنه إيتاء مال لليتيم . والمقصود من هذه الآية ظاهر ، وهو المحافظة على مال اليتيم وجعله خاصة ، وعدم هضم شيء منه ; لأن اليتيم ضعيف لا يقدر على حفظه والدفاع عنه ، ولذلك قال : ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب المراد بالخبيث : الحرام ، وبالطيب : الحلال ، أي لا تتمتعوا بمال اليتيم في المواضع والأحوال التي من شأنكم أن تتمتعوا فيها بأموالكم ، يعني أن الإنسان إنما يباح له التمتع بمال نفسه في الطرق المشروعة ، فإذا عرض له استمتاع فعليه أن يجعله من مال نفسه لا من مال اليتيم الذي هو قيم ووصي عليه ، فإذا استمتع بمال اليتيم فقد جعل مال اليتيم في هذا الموضع بدلا من ماله ، وبهذا يظهر معنى التبدل والاستبدال .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية