الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الباب الأول في الترغيب في النكاح والترغيب عنه .

اعلم أن العلماء قد اختلفوا في فضل النكاح فبالغ بعضهم فيه حتى زعم أنه أفضل من التخلي لعبادة الله واعترف آخرون بفضله ولكن قدموا عليه التخلي لعبادة الله مهما لم تتق النفس إلى النكاح توقانا يشوش الحال ويدعو إلى الوقاع .

وقال آخرون : الأفضل تركه في زماننا هذا وقد كان له فضيلة من قبل إذ لم تكن الأكساب محظورة وأخلاق النساء مذمومة .

التالي السابق


(الباب الأول

في الترغيب في النكاح والترغيب عنه)

[ ص: 284 ] (اعلم أن العلماء قد اختلفوا في فضل النكاح) وحكمه (فبالغ بعضهم فيه حتى زعم أنه أفضل من التخلي) والانجماع (لعبادة الله تعالى) مطلقا، (واعترف آخرون بفضله) وسلموا. (ولكن) فصلوا (وقدموا عليه التخلي لعبادة الله عز وجل مهما لم تتق) أي: لم تتشوق (النفس إلى النكاح توقانا) بالتحريك مصدر تاق يتوق (يشوش الحال) الذي هو عليه (ويدعو إلى الوقاع) أي: الجماع .

(وقال آخرون: الأفضل تركه) في (زماننا هذا) المشار إليه هو الزمان الذي مضى قبل زمان المصنف قالوا: (وقد كان له فضيلة من قبل إذ لم تكن الأكساب) جمع كسب (محظورة) أي ذات خطر، (و) لم تكن (أخلاق النساء مذمومة) لأنهن كن على نهج الرعيل الأول، ثم تغير حالهن من بعد فتغير الحكم بتغيره، ومحصل هذه الأقوال الثلاثة أفضليته مطلقا، والتفصيل إن غلبت شهوته إليه كان الأفضل في حقه، وإلا فلا. وهكذا صرح به أصحابنا أنه حال الاعتدال سنة مؤكدة مرغوبة، وحال التوقان واجب، وحالة خوف الجور مكروه، وسيأتي الكلام على ذلك في أثناء سياق المصنف فيما بعد. ومجمل القول هنا أنه اختلف في النكاح هل هو من العبادات أو المباحات ؟ فقال أصحابنا الحنفية: هو سنة مؤكدة على الأصح، وقال الشافعية: من المباحات. قال القولين في شرح الوسيط المسمى بالبحر .



(فرع)

نص الإمام على أن النكاح من الشهوات لا من القربات، وإليه أشار الشافعي في الأم حيث قال: قال الله تعالى: زين للناس حب الشهوات من النساء وفي الخبر: "حبب إلي من دنياكم النساء والطيب". وإبقاء النسل به أمر مظنون ثم لا يدرى أصالح أم طالح، اهـ .

وقال العراقي في شرح التقريب: غير التائق للنكاح تدخل تحته حالتان. إحداهما: أن يكون عاجزا وهذه الحالة تدخل تحتها صورتان. إحداهما: أن يكون فاقدا لمؤن النكاح فيكره له أيضا .

الصورة الثانية: أن يقدر على المؤن فلا يكره له النكاح في هذه الصورة، لكن التخلي للعبادة أفضل، هذا هو المشهور من مذهب الشافعي وغيره. وذهب أبو حنيفة وبعض الشافعية والمالكية إلى أن النكاح أفضل مطلقا، وأطلق الحنابلة أن غير التائق إما خلقة أو لكبر أو غيره يكون النكاح في حقه مباحا، وعن أحمد رواية أنه مستحب، وقد اشتهر عن الشافعية أن النكاح ليس عبادة، وعن الحنفية أنه عبادة، واستثنى التقي السبكي من الخلاف نكاح النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنه عبادة قطعا. انتهى سياق العراقي.

قال النووي: إن قصد به طاعة كاتباع السنة أو تحصيل ولد صالح أو عفة فرجه أو عينه، فهو من أعمال الآخرة يثاب عليه وهو للتائق له ولو خصيا القادر على مؤنه أفضل من التخلي للعبادة تحصينا للدين، ولما فيه من بقاء النسل، والعاجز عن مؤنه يصوم، والقادر غير التائق إن تخلى للعبادة فهو أفضل من النكاح، وإلا فالنكاح أفضل له من تركه لئلا تفضي به البطالة إلى الفواحش. اهـ .

وقد تعقب الكمال بن الهمام من أصحابنا قولهم التخلي للعبادة أفضل فقال: حقيقة أفضل تنفي كونه مباحا إذ لا فضل في المباح، والحق أنه إن اقترن بنية كان ذا فضل، والتجرد عند الشافعي أفضل لقوله تعالى: وسيدا وحصورا مدح يحيى عليه السلام بعدم إتيان النساء مع القدرة عليه، لأن هذا معنى الحصور، وحينئذ فإذا استدل عليه بمثل حديث الترمذي: " أربع من سنن المرسلين، فذكر النكاح ". اهـ، له أن يقول في الجواب لا أنكر الفضيلة مع حسن النية، وإنما أقول: التخلي للعبادة أفضل، فالأولى في جوابه التمسك بحاله عليه السلام في نفسه، ورده على من أراد من أمته التخلي للعبادة فإنه صريح في عين المنازع فيه أعني حديث: " فمن رغب عن سنتي فليس مني "، فإنه عليه السلام رد هذا الحال ردا مؤكدا ممن تبرأ منهبالجملة; فالأفضلية في الاتباع لا فيما تخيل النفس أنه أفضل نظرا إلى ظاهر عبادة أو توجه، ولم يكن الله عز وجل يرضى لأشرف أنبيائه إلا بأشرف الأحوال، وكان حاله إلى وفاة النكاح، فيستحيل أن يقره على ترك الأفضل مدة حياته، وكان حال يحيى عليه السلام أفضل في شريعته، وقد نسخت الرهبانية في ملتنا ولو تعارضا قدم التمسك بحال نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ومن تأمل ما يشتمل عليه النكاح من تهذيب الأخلاق وغيره من الفوائد لم يكد يقف عن الجزم بأنه أفضل من التخلي بخلاف ما إذا عارضه خوف جور إذ الكلام ليس فيه، بل في الاعتداء مع أداء الفرائض والسنن، وذكرنا [ ص: 285 ] أنه إذا لم تقترن به نية كان مباحا؛ لأن المقصود منه حينئذ مجرد قضاء الشهوة، ومبنى العبادة على خلافه، ثم قال: وأقول: بل فيه فضل من جهة أنه كان متمكنا من قضائها بغير الطريق المشروع والعدول إليه مع ما يعطيه من أنه قد يستلزم إثقالا فيه قصد ترك المعصية وعليه يثاب اهـ .




الخدمات العلمية