الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الكلام على الإدغام الواجب

وسمي بذلك لإجماع القراء على وجوب إدغامه، ويكون في المثلين والمتقاربين والمتجانسين، وإليك بسط الكلام على كل.

الإدغام الواجب في المثلين وضابطه

وهو مشروط بشرطين:

الأول: متفق عليه.

والثاني: مختلف فيه.

أما الشرط المتفق عليه فهو ألا يكون أول المثلين حرف مد كالواوين في نحو قوله تعالى: اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون [آل عمران : 200] وكالياءين في نحو: الذي يوسوس [الناس: 5] فإن كان كذلك فحكمه الإظهار بالإجماع؛ لئلا يذهب المد بسبب الإدغام، فلذا بقي الإظهار محافظة على المد.

أما إذا سكنت الواو الأولى وانفتح ما قبلها وجب إدغامها في المتحركة بعدها، نحو قوله تعالى: ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا [المائدة: 93] " آووا ونصروا " [الأنفال: 72، 74] وذلك لأن حرف اللين بمنزلة الصحيح، ولم يقع في القرآن الكريم ياء لينية بعدها ياء متحركة، ولو وقعت لوجب الإدغام.

[ ص: 237 ] وأما الشرط المختلف فيه فهو ألا يكون أول المثلين هاء سكت، ولم يقع من ذلك في التنزيل إلا موضع واحد وهو لفظ: ماليه من ماليه هلك [بالحاقة، الآيتان: 28، 29] وقد اختلف فيه، فقال البعض بالإدغام على القاعدة العامة "أي أن أول المثلين ساكن وليس حرف مد، والثاني متحرك كما سيأتي بعد" وقال البعض الآخر بالإظهار، وهو الأرجح والمقدم في الأداء، وعليه الجمهور.

ووجهه أن هاء السكت لا حظ لها في الإدغام، وكيفية الإظهار الوقف على هاء (ماليه) وقفة لطيفة من غير تنفس، وهذان الوجهان - أي الإظهار والإدغام - جائزان في حال وصل (ماليه) بـ(هلك) لمن أثبت الهاء من القراء حينئذ، ومنهم حفص عن عاصم . أما في حالة الوقف فلا خلاف في إثبات الهاء للكل.

وفيما سوى هذين الشرطين يدغم أول المثلين في الثاني وجوبا لكل القراء، سواء كان في كلمة نحو: يدرككم [النساء: 78] يوجهه [النحل: 76] الم [البقرة: 1] المر [الرعد: 1] أو في كلمتين نحو: ربحت تجارتهم [ ص: 238 ] اضرب بعصاك [الأعراف: 160] فلا يسرف في القتل [الإسراء: 33] وقد دخلوا [المائدة: 61] كانت تأتيهم [التغابن: 6] قل لكم [سبأ: 30] عصوا وكانوا [آل عمران : 112] إن نشأ [الشعراء: 4] إذ ذهب [الأنبياء: 87] وما إلى ذلك.

ويسمى إدغام مثلين صغيرا، فإن كان مصحوبا بالغنة نحو كم من فئة [البقرة: 249] و الم [البقرة: 1] و لن نؤمن [الإسراء: 90] فيسمى إدغام مثلين صغيرا مع الغنة.

وقد أشار العلامة الجمزوري في كنز المعاني إلى وجوب إدغام المثلين الصغير للجميع بالشروط التي ذكرنا بقوله فيه رحمه الله تعالى:


وما أول المثلين فيه مسكن فلا بد من إدغامه متمثلا     لدى الكل إلا حرف مد فأظهرن
كقالوا وهم في يوم وامدده مسجلا     لكل وإلا هاء سكت بماليه
ففيه لهم خلف والإظهار فضلا     بسكت ................
......

اهـ

كما أشار أيضا العلامة السمنودي في لآلئ البيان بقوله عفا الله عنه:


أول مثلي الصغير دون مد     أدغم ولكن سكت ماليه أسد

اهـ

الإدغام الواجب في المتقاربين وحروفه الخاصة به

وهو ليس مطلقا كإدغام المثلين، بل في أحرف مخصوصة، منها ما هو مطرد [ ص: 239 ] في التنزيل، ومنها ما هو خاص بموضعه، وهذه الأحرف هي:

1 - اللام الساكنة في الراء سواء كانت من حرف "بل" أو من فعل "قل" نحو: بل ربكم [الأنبياء: 56] بل رفعه الله إليه [النساء: 158] وقل رب أنـزلني منـزلا مباركا [المؤمنون: 29].

وما ذكره إمامنا الحافظ السيوطي في الإتقان من التثميل بقوله: "هل رأيتم" فهو سهو منه رحمه الله؛ إذ الراء لا تقع بعد هل في القرآن الكريم ألبتة، ويستثنى من هذا النوع إدغام لام بل في الراء من بل ران بالمطففين، الآية: 14، لحفص عن عاصم من الشاطبية بسبب سكته عليها، والسكت يمنع الإدغام.

2 - النون الساكنة - ولو تنوينا - في خمسة أحرف وهي: "اللام والراء والميم والواو والياء".

مثال النون مع هذه الأحرف: من ربهم [البقرة: 5] من لدنه [الكهف: 2] من مال الله [النور: 33] من ولي [البقرة: 120] إن يقولون [الكهف: 5].

ومثال التنوين معها نحو: محمد رسول الله [الفتح: 29] هدى للمتقين [البقرة: 2] [ ص: 240 ] مثلا ما [البقرة: 26] وليا ولا نصيرا [الأحزاب: 17] يومئذ يوفيهم [النور: 25].

بقي حرف واحد من الأحرف التي تدغم فيه النون الساكنة - ولو تنوينا - وهو "النون" نحو: إن نقول [هود: 54] يومئذ ناعمة [الغاشية: 8] وهو حينئذ من باب المثلين الذي ذكرناه آنفا، وقد مثلنا له هناك بنحو هذا، فتأمله.

أما الكلام على الغنة وعدمها في هذا الإدغام فسيأتي عند الكلام على نقصان الإدغام وكماله إن شاء الله تعالى.

هذا، ويستثنى من هذا النوع إدغام النون الساكنة في الراء من قوله تعالى: وقيل من راق بالقيامة، عند حفص عاصم من الشاطبية بسبب سكته على النون، والسكت يمنع الإدغام.

3 - الإدغام الشمسي: وهو إدغام لام التعريف في حروفها الأربعة عشر الخاصة بها المتقدمة في قوله: "طب ثم صل ... البيت" باستثناء حرف واحد منها وهو اللام في نحو: والليل إذا يغشى [الليل: 1] فإنه من قبيل إدغام المثلين، والأمثلة غير خفية لتقدمها في محلها، كما تقدم هناك أيضا وجه إدغام لام التعريف في [ ص: 241 ] القرب والمثل اتفاقا واختلافا، فارجع إليه إن شئت.

4 - القاف الساكنة في الكاف في قوله تعالى بالمراسلات: ألم نخلقكم من ماء مهين [الآية: 20].

ويسمى كل ما ذكرنا في هذا الإدغام إدغام متقاربين صغيرا، وتزاد كلمة (بغنة) إن كان مصحوبا بها، كإدغام النون الساكنة والتنوين في الميم والواو والياء، وكذلك لام التعريف في النون نحو: من النور [البقرة: 257] فتأمل.

الإدغام الواجب في المتجانسين وحروفه الخاصة به

وهو كإدغام المتقاربين في أن له حروفا مخصوصة، وقد تكون مطردة وغير مطردة، وأحرفه كما يلي:

1 - الذال المعجمة الساكنة من ذال "إذ" في الظاء في موضعين وهما: إذ ظلمتم [الزخرف: 39] إذ ظلموا [النساء: 64] ولا ثالث لهما في التنزيل.

2 - الدال المهملة الساكنة في التاء المثناة فوق، سواء أكانت الدال هذه من حرف "قد" أو من غيره، ففي قد نحوقد تبين [البقرة: 256] و وقد تعلمون [الصف: 5] وما شابه ذلك.

وأما في غير "قد" فهو كثير في التنزيل نحو: حصدتم [يوسف: 47] ولو تواعدتم [الأنفال: 42] " إلا الذين عاهدتم " [التوبة: 4، 7] وإن أردتم [النساء: 20] لقد كدت [الإسراء: 74] [ ص: 242 ] رددت [الكهف: 36] وما إلى ذلك.

وليس منه كلمة " عنتم " بآل عمران والتوبة و لعنتم بالحجرات؛ لأنها من العنت، ولذا لم ترسم في المصحف الشريف بدال بين النون والتاء، وقد نظم بعضهم هذه المواضع فقال:


عنتم قد أتت في ثلاثة     بتاء فلا ترسم بدال أخا العلا
ففي آل عمران أتت وبتوبة     وبالحجرات اختم كذا نقل الملا

اهـ

3 - تاء التأنيث الساكنة في الدال وفي الطاء المهملتين، ففي الدال في موضعين لا ثالث لهما:

أولهما في قوله تعالى في الأعراف: فلما أثقلت دعوا الله ربهما [الأعراف: 189].

وثانيهما في قوله بيونس: قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما [يونس: 89].

وفي الطاء في نحو قوله تعالى بالصف: فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة [الصف: 14].

4 - الطاء المهملة الساكنة في التاء المثناة فوق نحو: أحطت [النمل: 22] بسطت [المائدة: 28] فرطتم [يوسف: 80] ولهذا الحرف مزيد بيان نأتي عليه عند الكلام على كمال الإدغام ونقصانه.

5 - الميم الساكنة إذا وقع بعدها الباء الموحدة فتخفى حينئذ مع الغنة في [ ص: 243 ] أحد القولين نحو: يوم هم بارزون [غافر: 16] فاحكم بينهم [المائدة: 42] أم بظاهر من القول [الرعد: 33].

والقول الآخر هو الإظهار من غير غنة، وإليه ذهب بعضهم، وهو اختيار مكي بن أبي طالب القيسي ، وتقدم الكلام مستوفى على هذه المسألة في باب الميم الساكنة، فارجع إليه إن شئت، والله الموفق.

6 - اللام الساكنة في الراء نحو: وقل رب زدني علما [طه: 114] وكذلك النون الساكنة في اللام والراء نحو: من لدنا [الكهف: 65] أن رآه [العلق: 7] وهذا على مذهب الفراء وموافقيه.

أما على مذهب الجمهور - وهو المعول عليه - فمن قبيل إدغام المتقاربين كما تقدم، ويسمى الكل إدغام متجانسين صغيرا، والله تعالى أعلم.

الكلام على الإدغام الممتنع، أو موانع الإدغام الصغير

تقدم أن الإدغام الممتنع هو ما امتنع إدغامه عند عامة القراء، وهو ما كان الحرف الأول فيه متحركا والثاني ساكنا، سواء كانا في كلمة كالقافين في نحو: شققنا [عبس: 26] وكالذال المعجمة والتاء المثناة فوق في نحو: فاتخذت من دونهم [مريم: 17] أو كلمتين كاللامين في نحو: " قال الملأ " [الأعراف: 60، 66، 75، 88، 109] واللام والراء في نحو: قال ارجع [يوسف: 50] فكل هذا وما شاكله لا يجوز إدغامه بحال؛ لأن من شرط الإدغام [ ص: 244 ] أن يكون المدغم - وهو الحرف الأول - ساكنا والمدغم فيه - وهو الحرف الثاني - متحركا، وهو هنا بالعكس، ولهذا امتنع الإدغام هنا بالإجماع، وهذه هي موانع الإدغام الصغير.

وقد أشار إلى ما تقدم ذكره من الإدغام الواجب الممتنع في هذا الباب الحافظ ابن الجزري في المقدمة الجزرية بقوله:


وأولي مثل وجنس إن سكن     أدغم كقل ربي وبل لا وأبن
في يوم مع قالوا وهم وقل نعم     سبحه لا تزغ قلوب فالتقم

التالي السابق


الخدمات العلمية