الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 55 ] 419 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمتيع النساء المطلقات .

2642 - حدثنا روح بن الفرج ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، قال : حدثني الليث بن سعد ، عن أبي الزبير المكي ، أنه سأل عبد الحميد بن عبد الله بن أبي عمرو بن حفص عن طلاق جده أبي عمرو فاطمة ابنة قيس ، فقال له عبد الحميد : طلقها ألبتة ، ثم خرج إلى اليمن ، فوكل عياش بن أبي ربيعة ، فأرسل إليها عياش ببعض النفقة ، فسخطتها ، فقال لها عياش : ما لك علينا من نفقة ولا سكنى ، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأليه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ما قال ، فقال : ليس لك نفقة ولا سكنى ، ولكن متاع بالمعروف ، اخرجي عنهم ، فقالت : أأخرج إلى بيت أم شريك ؟ فقال لها : إن بيتها يوطأ ، انتقلي إلى بيت عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى فهو أقل .

[ ص: 56 ]

2643 - وحدثنا روح بن الفرج ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الله ، قال : حدثنا الليث ، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود ، عن أبي سلمة ، عن فاطمة ابنة قيس نفسها بمثل حديث الليث ، عن أبي الزبير حرفا بحرف .

قال أبو جعفر : فكان في هذا الحديث مما أضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس لك عليهم نفقة ولا سكنى ، ولكن متاع بالمعروف ، فاحتمل أن يكون ذلك على الإيجاب ، واحتمل أن يكون على الندب والحصر ، لا على الإيجاب .

فتأملنا ذلك فوجدنا الله - عز وجل - قد ذكر تمتع المطلقات في ثلاثة مواضع من كتابه ، وهي قوله عز وجل : وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ، وقوله : متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ، وقوله عز وجل : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن ، الآية ، فكان ذلك مما قد يحتمل أن يكون كمثل قوله - عز وجل - : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين [ ص: 57 ] فكان ذلك على الندب والحض ، لا على الإيجاب ، فيكون مثل ذلك قوله عز وجل في متع المطلقات حقا على المحسنين ، وحقا على المتقين ، يكون ذلك على الترغيب في ذلك ، والحض عليه ، فيكون في المطلقات جميعا مدخولا بهن كن أو غير مدخول بهن ،

كما قد روي عن علي رضي الله عنه ، مما قد حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني يحيى بن أيوب ، وموسى بن أيوب الغافقي ، عن عمه إياس بن عامر أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول ذلك ، يعني : لكل مطلقة متعة ، واحتمل أن يكون ذلك على الندب والحض ، واحتمل أن يكون ذلك على الإيجاب لبعضهن دون بعض ، كما قد روي عن عبد الله بن عمر في ذلك .

مما قد حدثنا يونس ، قال : حدثنا ابن وهب ، أن مالكا أخبره ، عن نافع ، [ ص: 58 ] عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول : لكل مطلقة متعة إلا التي تطلق وقد فرض لها صداق ، فحسبها نصف ما فرض لها .

وما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، فذكر مثله ، فكان في هذا من قول ابن عمر إخراج المطلقات قبل الدخول بهن من المتع اللاتي ذكرنا ، ثم التمسنا حكم ذلك من طريق النظر ، فوجدنا الواجب إبدالا من الإبضاع يجب بوقوع التزويجات وانعقادها ، لا بما سوى ذلك ، ولما كانت المتع لا توجبها التزويجات اللاتي لا طلاق معها ، كان بأن لا يوجبها الطلاق الذي يكون بعدها أحرى ، فإن قال قائل : فقد رأينا الطلاق يوجب النفقة والسكنى في العدة ، ولم يكونا واجبين قبل ذلك .

[ ص: 59 ] فكان جوابنا له في ذلك - بتوفيق الله عز وجل وعونه - أن الأمر ليس كما ذكر ، ولكنهما قد كانا واجبين بالتزويج وجوبا لم يرفعه الطلاق الواقع فيه ، فهذه حجة في وجوب التمتع للمطلقات بعد الدخول ، فأما المطلقات قبل الدخول فقد اختلف أهل العلم فيهن ، هل لهن متع يحكم بها على مطلقيهم الذين لم يكونوا فرضوا لهن صداقا أم لا ؟ فقال قائلون : لهن عليهم المتع ، وإن كانوا قد اختلفوا في مقادير المتع ، فقال قائلون منهم : هي المقدار الذي يجزئ في الصلاة من اللباس ، وممن قال ذلك منهم كثير من الكوفيين منهم : أبو حنيفة ، والثوري ، والقائلون بقولهما ، وقال آخرون منهم : مقدار المتعة في هذا هو نصف صداق مثلها من نسائها اللاتي يرجع في مثل صداقها إلى أمثال صدقات أمثالهن ، وممن قال ذلك منهم : حماد بن أبي سليمان ، وهذا هو الأولى مما قالوه في ذلك على أصولهم التي بنوا هذا المعنى عليها ، وقال قائلون من أهل العلم سواهم : إن المتع في هذا محضوض عليها ، مأمور بها غير مجبر عليها ، وممن قال ذلك منهم : مالك بن أنس ، وخالف الآخرين الذين ذكرناهم في ذلك ؛ لأن أولئك يوجبونها ، ويجبرون عليها ، ويحبسون فيها ، وكان الأولى مما قد قيل في ذلك عندنا - والله أعلم - الإيجاب لها ، والحبس فيها ؛ لأن التزويج وقع بلا تسمية صداق ، أوجب لها صداق مثلها على زوجها ، كما أوجب ملك بضعها لزوجها ، فلما وقع الطلاق قبل الدخول أسقط عن الزوج نصف [ ص: 60 ] الواجب عليه قبل الطلاق مما قد كان محبوسا في جميعه لو لم يطلق ، فإذا طلق فسقط عنه بالطلاق نصفه ، بقي النصف الباقي عليه كما كان عليه قبل ذلك من فروضه إياه ، وأخذه به وحبسه فيه ، كما إذا سمى لها صداقا ، ثم طلقها قبل دخوله بها ، فزال عنه نصفه ، يكون النصف الباقي لها عليه على حكم كله الذي كان لها عليه قبل الطلاق من لزومه إياه لها ، ومن حبسه لها فيه .

وقد رويت عن المتقدمين آثار في المتع بالطلاق نحن ذاكروها في هذا الباب إن شاء الله .

فمنها ما قد حدثنا سليمان بن شعيب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن زياد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني الحكم أن رجلا خاصم إلى شريح في متعة امرأته ، فقال شريح : وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ، فإن كنت من المتقين فعليك متعة ، ولم يقض به .

ومنها ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا وهب ، عن شعبة ، عن أيوب ، [ ص: 61 ] عن سعيد بن جبير قال : لكل مطلقة متعة .

وما قد حدثنا يوسف بن يزيد ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أنبأنا يونس ، عن الحسن ، ثم ذكر مثله .

ومنها ما قد حدثنا يوسف ، قال : حدثنا سعيد ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء قال : لكل مطلقة متاع ، إلا التي طلقها قبل أن يدخل بها وقد فرض لها ، فلها نصف الصداق .

ومنها ما قد حدثنا يوسف ، قال : حدثنا سعيد ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أنبأنا مغيرة ، عن إبراهيم ، ومحمد بن سالم ، عن الشعبي مثله .

[ ص: 62 ] ومنها ما قد حدثنا يوسف ، قال : حدثنا سعيد ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك أنه قال : لكل مطلقة متاع حتى المختلعة .

وفيما قد ذكرنا فيما قد تقدم من هذا الباب ما قد دل على الصحيح مما قد قالوه في ذلك ، مما ذكرناه عنهم ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية