الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده الآية ، قد يتوهم غير العارف من مفهوم مخالفة هذه الآية الكريمة ، أعني مفهوم الغاية في قوله : حتى يبلغ أشده [ 6 \ 152 ] أنه إذا بلغ أشده ، فلا مانع من قربان ماله بغير التي هي أحسن ، وليس ذلك مرادا بالآية ، بل الغاية ببلوغ الأشد يراد بها : أنه إن بلغ أشده يدفع إليه ماله ، إن أونس منه الرشد ، كما بينه تعالى بقوله : فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم الآية [ 4 \ 6 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      والتحقيق أن المراد بالأشد في هذه الآية البلوغ ; بدليل قوله تعالى : حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      والبلوغ يكون بعلامات كثيرة ، كالإنبات ، واحتلام الغلام ، وحيض الجارية ، وحملها ، وأكثر أهل العلم على أن سن البلوغ خمس عشرة سنة ، ومن العلماء من قال : إذا بلغت قامته خمسة أشبار فقد بلغ ، ويروى هذا القول عن علي ، وبه أخذ الفرزدق في قوله يرثي يزيد بن المهلب : [ الكامل ]


                                                                                                                                                                                                                                      ما زال مذ عقدت يداه إزاره فسما فأدرك خمسة الأشبار


                                                                                                                                                                                                                                      يدني خوافق من خوافق تلتقي     في ظل معتبط الغبار مثار



                                                                                                                                                                                                                                      والأشد ، قال بعض العلماء : هو واحد لا جمع له كالآنك ، وهو الرصاص ، وقيل : واحده شد ، كفلس وأفلس ، قاله القرطبي وغيره ، وعن سيبويه أنه جمع شدة ، ومعناه حسن ; لأن العرب تقول : بلغ الغلام شدته ، إلا أن جمع الفعلة فيه على أفعل غير معهود ، [ ص: 546 ] كما قاله الجوهري ، وأما أنعم ، فليس جمع نعمة ، وإنما هو جمع نعم من قولهم بئس ونعم ، قاله القرطبي ، وقال أيضا : وأصل الأشد من شد النهار إذا ارتفع ، يقال : أتيته شد النهار ، وكان محمد بن محمد الضبي ينشد بيت عنترة : [ الكامل ]


                                                                                                                                                                                                                                      عهدي به شد النهار كأنما     خضب اللبان ورأسه بالعظلم



                                                                                                                                                                                                                                      وقال الآخر : [ الطويل ]


                                                                                                                                                                                                                                      تطيف به شد النهار ظعينة     طويلة أنقاء اليدين سحوق



                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه : ومنه قول كعب بن زهير : [ البسيط ]


                                                                                                                                                                                                                                      شد النهار ذراعا عيطل نصف     قامت فجاوبها نكد مثاكيل



                                                                                                                                                                                                                                      فقوله : " شد النهار " يعني وقت ارتفاعه ، وهو بدل من اليوم ، في قوله قبله :


                                                                                                                                                                                                                                      يوما يظل به الحرباء مصطخدا     كأن ضاحيه بالشمس محلول



                                                                                                                                                                                                                                      فشد النهار بدل من قوله يوما ، بدل بعض من كل ، كما أن قوله : " يوما " بدل من إذا في قوله قبل ذلك : [ البسيط ]


                                                                                                                                                                                                                                      كأن أوب ذراعيها إذا عرقت     وقد تلفع بالقور العساقيل



                                                                                                                                                                                                                                      لأن الزمن المعبر عنه " بإذا " هو بعينه اليوم المذكور في قوله : " يوما يظل " البيت ، ونظيره في القرآن قوله تعالى : فإذا جاءت الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى [ 79 \ 34 ، 35 ] ، وقوله : فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء الآية [ 80 \ 33 ، 34 ] ، وإعراب أبيات كعب هذه يدل على جواز تداخل البدل ، وقوله : " ذراعا عيطل " خبر كأن في قوله : " كأن أوب ذراعيها " البيت .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال السدي : الأشد ثلاثون سنة ، وقيل : أربعون سنة ، وقيل : ستون سنة ، ولا يخفى أن هذه الأقوال بعيدة عن المراد بالآية كما بينا ، وإن جازت لغة ، كما قال سحيم بن وثيل : [ الوافر ]


                                                                                                                                                                                                                                      أخو خمسين مجتمع أشدي     ونجذني مداورة الشئون



                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية