الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 174 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب ( 21 ) إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط ( 22 ) )

يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : وهل أتاك يا محمد نبأ الخصم وقيل : إنه عني بالخصم في هذا الموضع ملكان ، وخرج في لفظ الواحد ، لأنه مصدر مثل الزور والسفر ، لا يثنى ولا يجمع ، ومنه قول لبيد :


وخصم يعدون الذحول كأنهم قروم غيارى كل أزهر مصعب



وقوله ( إذ تسوروا المحراب ) يقول : دخلوا عليه من غير باب المحراب ، والمحراب مقدم كل مجلس وبيت وأشرفه .

وقوله ( إذ دخلوا على داود ) فكرر إذ مرتين وكان بعض أهل العربية يقول في ذلك : قد يكون معناهما كالواحد ، كقولك : ضربتك إذ دخلت علي إذ اجترأت ، فيكون الدخول هو الاجتراء ، ويكون أن تجعل إحداهما على مذهب لما ، فكأنه قال : إذ تسوروا المحراب لما دخلوا قال : وإن شئت جعلت لما في الأول ، فإذا كان لما أولا أو آخرا ، فهي بعد صاحبتها ، كما تقول : أعطيته لما سألني ، فالسؤال قبل الإعطاء في تقدمه وتأخره .

وقوله ( ففزع منهم ) يقول القائل : وما كان وجه فزعه منهما وهما خصمان ، فإن فزعه منهما كان لدخولهما عليه من غير الباب الذي كان المدخل [ ص: 175 ] عليه ، فراعه دخولهما كذلك عليه . وقيل : إن فزعه كان منهما ، لأنهما دخلا عليه ليلا في غير وقت نظره بين الناس ، قالوا : ( لا تخف ) يقول - تعالى ذكره - : قال له الخصم : لا تخف يا داود ، وذلك لما رأياه قد ارتاع من دخولهما عليه من غير الباب . وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ظهر من الكلام منه ، وهو مرافع خصمان ، وذلك نحن . وإنما جاز ترك إظهار ذلك مع حاجة الخصمين إلى المرافع ، لأن قوله ( خصمان ) فعل للمتكلم ، والعرب تضمر للمتكلم والمكلم والمخاطب ما يرفع أفعالهما ، ولا يكادون أن يفعلوا ذلك بغيرهما ، فيقولون للرجل يخاطبونه : أمنطلق يا فلان ويقول المتكلم لصاحبه : أحسن إليك وتجمل ، وإنما يفعلون ذلك كذلك في المتكلم والمكلم ، لأنهما حاضران يعرف السامع مراد المتكلم إذا حذف الاسم ، وأكثر ما يجيء ذلك في الاستفهام ، وإن كان جائزا في غير الاستفهام ، فيقال : أجالس راكب ؟ فمن ذلك قوله خصمان ، ومنه قول الشاعر :


وقولا إذا جاوزتما أرض عامر     وجاوزتما الحيين نهدا وخشعما
نزيعان من جرم بن ربان إنهم     أبوا أن يميروا في الهزاهز محجما



وقول الآخر :


تقول ابنة الكعبي يوم لقيتها     أمنطلق في الجيش أم متثاقل

[ ص: 176 ] ومنه قولهم : " محسنة فهيلى " . وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " آيبون تائبون " . وقوله : " جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله " كل ذلك بضمير رفعه . وقوله عز وجل ( بغى بعضنا على بعض ) يقول : تعدى أحدنا على صاحبه بغير حق ( فاحكم بيننا بالحق ) يقول : فاقض بيننا بالعدل ( ولا تشطط ) : يقول : ولا تجر ، ولا تسرف في حكمك ، بالميل منك مع أحدنا على صاحبه . وفيه لغتان : أشط ، وشط . ومن الإشطاط قول الأحوص :


ألا يا لقوم قد أشطت عواذلي     ويزعمن أن أودى بحقي باطلي



ومسموع من بعضهم : شططت علي في السوم . فأما في البعد فإن أكثر كلامهم : شطت الدار ، فهي تشط ، كما قال الشاعر :


تشط غدا دار جيراننا     وللدار بعد غد أبعد



وقوله ( واهدنا إلى سواء الصراط ) يقول : وأرشدنا إلى قصد الطريق المستقيم .

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله ( ولا تشطط ) قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ولا تشطط ) : أي لا تمل .

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( ولا تشطط ) يقول : لا تحف .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( ولا تشطط ) تخالف عن الحق ، وكالذي قلنا أيضا في قوله ( واهدنا إلى سواء الصراط ) قالوا .

[ ص: 177 ] ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( واهدنا إلى سواء الصراط ) إلى عدله وخيره .

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( واهدنا إلى سواء الصراط ) إلى عدل القضاء .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( واهدنا إلى سواء الصراط ) قال : إلى الحق الذي هو الحق : الطريق المستقيم ( ولا تشطط ) تذهب إلى غيرها .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : ( واهدنا إلى سواء الصراط ) : أي احملنا على الحق ، ولا تخالف بنا إلى غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية