الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولا تطع كل حلاف إعادة فعل النهي عن الطاعة لمن هذه صفاتهم للاهتمام بهذا الأدب فلم يكتف بدخول أصحاب هذه الأوصاف في عموم المكذبين ، ولا بتخصيصهم بالذكر بمجرد عطف الخاص على العام بأن يقال : ولا كل حلاف ، بل جيء في جانبهم بصيغة نهي أخرى مماثلة للأولى .

وليفيد تسليط الوعيد الخاص وهو في مضمون قوله سنسمه على الخرطوم على أصحاب هذه الصفات الخاصة زيادة على وعيد المكذبين .

وقريب منه قول الحارث بن همام الشيباني :


أيا ابن زيابة إن تلقـنـي لا تلقني في النعم العازب     وتلقني يشتد بـي أجـرد
مستقدم البركة كالراكب

فلم يكتف بعطف : ب ( بل ) أو ( لكن ) بأن يقول : بل تلقني يشتد بي أجرد ، أو لكن تلقني يشتد بي أجرد ، وعدل عن ذلك فأعاد فعل ( تلقني ) .

وكلمة ( كل ) موضوعة لإفادة الشمول والإحاطة لأفراد الاسم الذي تضاف هي إليه ، فهي هنا تفيد النهي العام عن طاعة كل فرد من أفراد أصحاب هذه الصفات التي أضيف إليها ( كل ) بالمباشرة وبالنعوت .

وقد وقعت كلمة ( كل ) معمولة للفعل الداخلة عليه أداة النهي ولا يفهم منه أن النهي منصب إلى طاعة من اجتمعت فيه هذه الصفات بحيث لو أطاع بعض أصحاب هذه الصفات لم يكن مخالفا للنهي ؛ إذ لا يخطر ذلك بالبال ولا يجري على [ ص: 71 ] أساليب الاستعمال ، بل المراد النهي عن طاعة كل موصوف بخصلة من هذه الخصال بله من اجتمع له عدة منها .

وفي هذا ما يبطل ما أصله الشيخ عبد القادر في دلائل الإعجاز من الفرق بين أن تقع ( كل ) في حيز النفي ، أي أو النهي فتفيد ثبوت الفعل أو الوصف لبعض مما أضيف إليه ( كل ) إن كانت ( كل ) مسندا إليها ، أو تفيد تعلق الفعل أو الوصف ببعض ما أضيف إليه ( كل ) إن كانت معمولة للمنفي أو المنهي عنه ، وبين أن تقع ( كل ) في غير حيز النفي ، وجعل رفع لفظ ( كله ) في قول أبي النجم :


قد أصبحت أم الخيار تدعي     علي ذنبا كله لم أصـنـع

متعينا ؛ لأنه لو نصبه لأفاد تنصله من أن يكون صنع مجموع ما ادعته عليه من الذنوب ، فيصدق بأنه صنع بعض تلك الذنوب وهو لم يقصد ذلك كما صرح بإبطاله العلامة التفتازاني في المطول ، واستشهد للإبطال بقوله تعالى والله لا يحب كل كفار أثيم وقوله ولا تطع كل حلاف مهين .

وأجريت على المنهي عن الإطاعة بهذه الصفات الذميمة ؛ لأن أصحابها ليسوا أهلا لأن يطاعوا ؛ إذ لا ثقة بهم ولا يأمرون إلا بسوء .

قال جمع من المفسرين المراد بالحلاف المهين : الوليد بن المغيرة ، وقال بعضهم : الأخنس بن شريق ، وقال آخرون : الأسود بن عبد يغوث ، ومن المفسرين من قال : المراد أبو جهل ، وإنما عنوا أن المراد التعريض بواحد من هؤلاء ، وإلا فإن لفظ ( كل ) المفيد للعموم لا يسمح بأن يراد النهي عن واحد معين ، وأما هؤلاء فلعل أربعتهم اشتركوا في معظم هذه الأوصاف فهم ممن أريد بالنهي عن إطاعته ومن كان على شاكلتهم من أمثالهم .

وليس المراد من جمع هذه الخلال بل من كانت له واحدة منها ، والصفة الكبيرة منها هي التكذيب بالقرآن الذي ختم بها قوله إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ، لكن الذي قال في القرآن ( إنه أساطير الأولين ) هو الوليد بن المغيرة ، فهو الذي اختلق هذا البهتان في قصة معلومة ، فلما تلقف الآخرون منه هذا البهتان وأعجبوا به أخذوا يقولونه فكان جميعهم ممن يقوله ، ولذلك أسند الله إليهم هذا القول في آية وقالوا أساطير الأولين .

[ ص: 72 ] وذكرت عشر خلال من مذامهم التي تخلقوا بها : الأولى حلاف ، والحلاف : المكثر من الأيمان على وعوده وأخباره ، وأحسب أنه أريد به الكناية عن عدم المبالاة بالكذب وبالأيمان الفاجرة فجعلت صيغة المبالغة كناية عن تعمد الحنث ، وإلا لم يكن ذمه بهذه المثابة ، ومن المفسرين من جعل ( مهين ) قيدا ل ( حلاف ) على جعل النهي عن طاعة صاحب الوصف مجتمعين .

التالي السابق


الخدمات العلمية