الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ درس ] ، ثم أشار إلى بقية أحكام الحجر بقوله ( وبيع ماله ) أي باعه الحاكم إن خالف جنس دينه أو صفته بعد ثبوت الدين عليه والإعذار للمفلس فيما ثبت عنده من الدين ولكل من القائمين في دين صاحبه ; لأن لكل الطعن في بينة صاحبه وبعد حلف كل أنه لم يقبض شيئا من دينه ، ولا أسقطه ، ولا أحال به وأنه باق في ذمته إلى الآن ( بحضرته ) ندبا ; لأنه أقطع لحجته ( بالخيار ) للحاكم ، فإن باعه بغيره فلكل من الغرماء والمفلس الرد أياما ( ثلاثا ) لطلب الزيادة في كل سلعة [ ص: 270 ] إلا ما يفسده التأخير ( ولو كتبا ) ظاهره ولو احتاج لها ولو فقها وليست كآلة الصانع ; لأن شأن العلم أن يحفظ ( أو ثوبي جمعته إن كثرت قيمتهما ) قال فيها القضاء أن يباع عليه ما كان للتجارة أو للقنية كداره وخادمه ودابته وسرجه وسلاحه وخاتمه وغير ذلك إلا ما لا بد منه من ثياب جسده ، وبيع عليه ثوبا جمعته إن كان لهما قيمة وإن لم يكن لهما تلك القيمة فلا انتهى . والمراد بثوبي جمعته ملبوس جمعته وهو يختلف باختلاف العرف والأمكنة والأزمنة ( وفي بيع آلة الصانع ) القليلة القيمة المحتاج لها ( تردد ) لعبد الحميد الصائغ وحده ، وأما كثيرة القيمة وغير المحتاج لها فتباع جزما ( وأوجر رقيقه ) الذي لا يباع في الدين كمدبر قبل الدين ومعتق لأجل وولد أم ولده من غيره ( بخلاف مستولدته ) فلا تؤاجر إذ ليس له فيها إلا الاستمتاع وقليل الخدمة وأولى المكاتب إذ ليس له فيه خدمة نعم تباع كتابته ( ولا يلزم ) المفلس بعد أخذ ما بيده ( بتكسب ) لوفاء ما عليه من الدين ولو كان قادرا على ذلك ; لأن الدين إنما تعلق بذمته ( وتسلف ) أي لا يلزمه أن يتسلف ، ولا قبوله ، ولا قبول صدقة ، ولا هبة ( و ) لا ( استشفاع ) أي أخذ شقص بالشفعة فيه فضل ; لأنه ابتداء ملك ( و ) لا ( عفو ) عن قصاص وجب له ( للدية ) أي على أخذها ليوفي بها دينه وله العفو مجانا بخلاف ما يجب فيه الدية خطأ أو عمدا لا قصاص فيه كجائفة ومأمومة ، فيلزم بعدم العفو ; لأنه مال ( وانتزاع مال رقيقه ) الذي تقدم أنه يؤاجر [ ص: 271 ] أي ليس لهم أن يلزموه ذلك وإن جاز له ذلك ، فإن انتزعه فلهم أخذه ( أو ) انتزاع أي اعتصار ( ما وهبه ) قبل إحاطة الدين ( لولده ) الصغير أو الكبير بخلاف ما وهبه له بعد الإحاطة فلهم رده ، ثم بين كيفية بيع ماله من تعجيل واستيناء بقوله ( وعجل بيع الحيوان ) أي لا يستأنى به كما يستأنى ببيع عقاره وعرضه فلا ينافي أنه يتربص به الأيام اليسيرة طلبا للزيادة ، ثم يباع ; لأنه يسرع له التغير ويحتاج إلى مؤنة وفيه نقص لمال الغرماء فليس المراد أنه يباع بلا تأخير أصلا أو بلا خيار ثلاثة أيام ( واستؤني بعقاره ) وعرضه لطلب الزيادة ( كالشهرين ) وأدخلت الكاف الأيام اليسيرة بالنظر كما يفيده النقل ، وأما ما يخشى فساده كطري لحم وفاكهة فلا يستأنى به إلا كساعة ، وأما نحو سوط ودلو فيباع عاجلا .

التالي السابق


( قوله إلى بقية أحكام الحجر ) أي التفليس ( قوله وبيع ماله ) أي وجوبا إن خالف جنس دينه أو صفته وإلا فلا يجب والمستحب أن يكون البيع بحضرة المدين ; لأنه أقطع لحجته وقال المصنف في التوضيح لا يبعد وجوبه ، وقوله وبيع ماله ظاهره الشمول للدين الذي له على الغير وهو الذي نص عليه ابن رشد واختاره إلا أن يتفق الغرماء على إبقائها حتى تقبض ، وقيل إنها لا تباع وتبقى على آجالها ا هـ شب ( قوله بعد ثبوت الدين ) أي بعد أن يثبت كل غريم دينه بالبينة وبعد إعذار الحاكم للمفلس في كل بينة وبعد إعذاره لكل واحد من الغرماء في البينة الشاهدة لكل واحد من القائمين ، والمراد بإعذاره له فيها قطع عذره وحجته بأن يقول له ألك مطعن في تلك البينة ؟ وإذا علمت أن الإعذار في البينة تعلم أن قول الشارح والإعذار للمفلس فيما ثبت عنده عن الدين فيه تسامح وكذا قوله ولكل من القائمين في دين صاحبه ; لأن الإعذار ليس في الدين بل في البينة التي أثبتته فتأمل . ( قوله وبعد حلف كل إلخ ) قال الشيخ ميارة في بعض طرره تأمل هل هذه اليمين يمين قضاء وهم إنما أوجبوها على طالب ممن لا يمكنه الدفع عن نفسه إما حالا فقط كالغائب أو حالا ومآلا كالميت أو هي يمين منكر فلا تتوجه إلا بدعوى كل واحد من الغرماء على غيره أنه قبض أو أسقط مثلا وفي كلام ابن رشد ما يؤيد الثاني حيث قال إذا كان المطلوب حاضرا وادعى قضاء ما ثبت عليه فيمين طالبه يمين منكر لا يمين قضاء ا هـ بن ( قوله فإن باعه بغيره ) أي بغير خيار بأن اشترط البت ( قوله لطلب الزيادة ) فإذا زاد أحد في تلك المدة على ثمن المشتري الأول رد الحاكم بيعه وباع لهذا الثاني ، ثم إن بيع الحاكم وإن كان منحلا من جهته فهو لازم من جهة المشتري ، ولذا تلزمه نفقة المبيع وإذا كان الضمان منه ا هـ عدوي ( قوله في كل سلعة ) متعلق بقوله بالخيار ثلاثا ، وقوله في كل سلعة أي سواء كانت عرضا أو حيوانا أو عقارا ، وهذا بخلاف خيار التروي فإنه يختلف باختلاف السلع كما مر والظاهر أن للحاكم البيع بخيار التروي وعليه فيكون خيار الحاكم ثلاثا بعده ، واعلم أنه لا يختص [ ص: 270 ] ما ذكره المصنف من الخيار ثلاثا بسلع المفلس بل كل ما باعه الحاكم على غيره من سلع غائب ومغنم كذلك .

( قوله إلا ما يفسده التأخير ) أي كطري اللحم ورطب الفاكهة فلا يستأنى بها إلا ساعة من الزمان ( قوله ولو كتبا ) رد بلو على من قال إن الكتب لا تباع أصلا ، واعلم أن الخلاف في الكتب الشرعية كالفقه والتفسير والحديث وآلة ذلك ، أما غيرها فلا خلاف في وجوب بيعها ( قوله وليست كآلة الصانع ) أي المحتاج إليها فإن فيها ترددا ( قوله لأن شأن العلم أن يحفظ ) قال شيخنا إن الحفظ قد ذهب الآن فلذا أجراها بعضهم على آلة الصانع ( قوله إن كثرت قيمتهما ) يحتمل أن المراد إن كانت قيمتهما كثيرة في نفسهما ويحتمل إن كثرت قيمتهما بالنظر لصاحبهما وإذا بيعا فيشترى له دونهما كما أن دار سكناه تباع عليه إن كان فيها فضل ويشترى له دار تناسبه ، فإن كان لا فضل فيها فلا تباع ( قوله تلك القيمة ) أي القيمة المعتبرة ( قوله والمراد إلخ ) دفع بهذا ما يقال إنه لا فرق بين الثوب والأثواب وحينئذ فلا وجه للتثنية ، وقد أجيب بجواب آخر وحاصله أن التثنية نظرا للغالب إذ الغالب لبس ثوبين قميص ورداء أو جبة ورداء ( قوله وهو يختلف باختلاف العرف ) أي من لبس ثوب واحد أو ثوبين أو ثوب وشيء آخر يجعله على الكتفين أو إزار ورداء ( قوله وفي بيع آلة الصانع القليلة القيمة المحتاج إليها تردد ) حاصله أن عبد الحميد الصائغ تردد في آلة الصانع المحتاج لها هل هي مثل ثياب الجمعة لا تباع إلا إذا كثرت قيمتها ويشترى له دونها أو تباع مطلقا ؟ قلت قيمتها أو كثرت فكثيرة القيمة مجزوم ببيعها والتردد في قليلة القيمة فقول الشارح وفي بيع آلة الصانع القليلة القيمة أي وعدم بيعها وإنما تباع إذا كثرت قيمتها كثياب الجمعة تردد ( قوله لعبد الحميد الصائغ وحده ) وحينئذ فمعناه التحير ، وأما إذا كان من اثنين فمعناه الاختلاف كأن ينقل ابن رشد عن ابن القاسم قولا جازما به وينقل اللخمي عنه قولا مغايرا له جازما به فإذا عبر المصنف في مثل هذا بتردد كان بمعنى خلاف في النقل من المتأخرين عن المتقدمين ( قوله كمدبر قبل الدين ومعتق لأجل ) اللخمي تباع خدمة المعتق لأجل وإن طال الأجل كعشر سنين ويباع من خدمة المدبر السنة والسنتين ، وإنما قيد الشارح بقوله قبل الدين ; لأن المدبر بعد الدين تباع رقبته لبطلان التدبير كما تقدم ( قوله وولد أم ولده من غيره ) أي وأما العبد القن فهذا يباع عليه فهو داخل في قوله وبيع ماله ( قوله بخلاف مستولدته ) أي التي أولدها قبل الحجر عليه ، وأما من أولدها بعد الحجر عليه فإنها تباع قال في المقدمات ولو ادعى في أمة أنها سقطت منه لم يصدق إلا أن تقوم بينة من النساء أو يكون قد فشا ذلك قبل ادعائه ، وأما لو كان لها ولد قائم فقوله مقبول أنه منه ( قوله ولا يلزم إلخ ) ولو عامله الغرماء على التكسب إذا فلس ولو شرطوا عليه ذلك فلا يعمل بذلك الشرط وسواء كان صانعا أو تاجرا . هذا هو المعتمد خلافا لما في عبق من جبره على التكسب إذا شرط عليه التكسب في عقد الدين انظر بن ( قوله أي لا يلزمه أن يتسلف ) أي يطلب مالا على وجه السلف لأجل وفاء غرمائه ، وقوله ولا قبوله أي من غير طلب ( قوله فيه فضل ) أي زيادة على الشراء ( قوله لأنه ابتداء ملك ) أي وابتداء الملك واستحداثه لا يلزمه ; لأنها معاملة أخرى ولو مات المفلس عن شفعة فالشفعة للورثة لا للغرماء كما في خش ( قوله ولا عفو ) أي ولا يلزم بعفو عن قصاص لأجل أخذ الدية ، وهذا ظاهر على مذهب أشهب من أن المجني عليه مخير بين أمور ثلاثة : القود والعفو مجانا وعلى الدية ، وأما على مذهب ابن القاسم القائل إنه يخير بين القود والعفو مجانا فقط فلا يتأتى إلزامه على العفو لأجل الدية ومعلوم أن نفي الشيء فرع من صحة ثبوته إلا أن يحمل على ما إذا رضي الجاني [ ص: 271 ] والمجني عليه بها تأمل .

( قوله أي ليس لهم أن يلزموه ذلك ) ابن عرفة وفيها ليس لغرماء المفلس جبره على انتزاع مال أم ولده أو مدبره ابن زرقون في سماع ابن القاسم من حبس حبسا وشرط أن للمحبس عليه البيع فلغرمائه البيع عليه . ابن رشد روى محمد ليس للغرماء ذلك وهو الآتي على قول المدونة لا يجبر المفلس على انتزاع مال أم ولده ولا مدبره .

{ تنبيه } قال في المقدمات فإن كان المفلس امرأة فليس للغرماء أن يأخذوا معجل مهرها قبل الدخول ولا بعده بأيام يسيرة ; لأنه يلزمها أن تتجهز به للزوج ولا يجوز لها أن تقضي منه دينها إلا الشيء اليسير قال في المدونة الدينار ونحوه وفي الموازية الدينارين والثلاثة ، وأما ما تداينته بعد دخول زوجها فإن مهرها يؤخذ فيه هذا نص رواية يحيى عن ابن القاسم وفيها نظر وسكت عن كالئها كمؤخر الصداق هل للغرماء بيعه في دينهم أم لا ؟ الظاهر أن ذلك لهم وأنه لا يلزمها أن تتجهز به للزوج ا هـ بن ( قوله أي اعتصار إلخ ) أشار الشارح إلى أن المصنف استعمل الانتزاع في حقيقته بالنسبة لانتزاع مال رقيقه ، ومجازه بالنسبة لانتزاع ما وهبه لولده ; لأنه إنما يقال فيه اعتصار فإطلاق الانتزاع على هذا مجاز بالنسبة لعرف الفقهاء لا بالنسبة للغة ; لأنه يقال له لغة لأخذ السيد مال رقيقه ولأخذ الوالد ما وهبه لولده انتزاع فالمجاز عرفي لا لغوي ( قوله أي لا يستأنى ) أي في المناداة عليه ، وقوله فلا ينافي أنه يتربص به أي في المناداة عليه ، وقوله الأيام اليسيرة أي كثلاثة أيام ونحوها ، ثم يباع بعد ذلك بالخيار للحاكم ثلاثا كما مر ( قوله فليس المراد ) أي بقوله وعجل بيع الحيوان أنه يباع بلا تأخير أصلا أي بل المراد أنه لا يستأنى به كما يستأنى بالعقار ، وهذا لا ينافي أنه يؤخر في المناداة عليه ثلاثة أيام ونحوها ، ثم يباع بالخيار للحاكم ثلاثة أيام كما مر .

( قوله واستؤني بعقاره ) أي في المناداة على عقاره وعلى عرضه إذا كان كثير القيمة ، وقوله كالشهرين أي ثم يباع بعد ذلك بالخيار للحاكم ثلاثة أيام مراعاة لحال المفلس ، وقوله واستؤني أي وجوبا ، فإن لم يستأن بذلك خير المفلس في إمضاء البيع ورده ولا يضمن الحاكم الزيادة التي في سلع المفلس حيث باعها بغير استيناء إذا أمضى المفلس بيع الحاكم ; لأن الزيادة غير محققة والذمة لا تلزم إلا بأمر محقق ا هـشيخنا عدوي ابن يونس قال مالك يستأنى في بيع ربع المفلس يتسوق به الشهر والشهرين ، وأما الحيوان والعرض فيتسوق بهما يسيرا والحيوان أسرع بيعا وسمع ابن القاسم يستأنى بالعروض الشهر والشهرين مثل الدار ابن رشد لفظه مشكل لاقتضائه أن العرض كالعقار يستأنى به الشهر والشهرين ، وهذا مخالف لما قاله الإمام فيحتمل أن يكون معنى قوله يستأنى بالعروض الشهر والشهرين أن العروض التي كالدور في كثرة الثمن يستأنى بها الشهر والشهرين ا هـ بن ( قوله بالنظر ) أي بحسب ما يراه القاضي ( قوله فلا يستأنى به ) أي في المناداة عليه .




الخدمات العلمية