الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفائدة الثانية : التحصن من الشيطان وكسر التوقان ودفع غوائل الشهوة وغض البصر وحفظ الفرج وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : " من نكح فقد حصن نصف دينه فليتق الله في الشطر الآخر " وإليه الإشارة بقوله : " عليكم بالباءة فمن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإن الصوم له وجاء " وأكثر ما نقلناه من الآثار والأخبار إشارة إلى هذا المعنى وهذا المعنى دون الأول لأن الشهوة موكلة بتقاضي تحصيل الولد فالنكاح ، كاف لشغله دافع لجعله وصارف لشر سطوته ، وليس من يجيب مولاه رغبة في تحصيل رضاه كمن يجيب لطلب الخلاص عن غائلة التوكيل فالشهوة والولد مقدران وبينهما ارتباط وليس يجوز أن يقال المقصود اللذة والولد لازم منها كما يلزم مثلا قضاء الحاجة من الأكل وليس مقصودا في ذاته بل الولد هو المقصود بالفطرة والحكمة والشهوة باعثة عليه ولعمري في الشهوة حكمة أخرى سوى الإرهاق إلى الإيلاد وهو ما في قضائها من اللذة التي لا توازيها لذة لو دامت فهي منبهه على اللذات الموعودة في الجنان إذ الترغيب في لذة لم يجد لها ذواقا لا ينفع ، فلو رغب العنين في لذة الجماع أو الصبي في لذة الملك والسلطنة لم ينفع الترغيب وإحدى فوائد لذات الدنيا الرغبة في دوامها في الجنة ليكون باعثا على عبادة الله .

فانظر إلى الحكمة ثم إلى الرحمة ثم إلى التعبية الإلهية كيف عبيت تحت شهوة واحدة حياتان حياة ظاهرة وحياة باطنة ، فالحياة الظاهرة حياة المرء ببقاء نسله ، فإنه نوع من دوام الوجود والحياة الباطنة هي الحياة الأخروية ، فإن هذه اللذة الناقصة بسرعة الانصرام تحرك الرغبة في اللذة الكاملة بلذة الدوام فيستحث على العبادة الموصلة إليها فيستفيد العبد بشدة الرغبة فيها تيسر المواظبة على ما يوصله إلى نعيم الجنان وما من ذرة من ذرات بدن الإنسان باطنا وظاهرا بل ذرات ملكوت السماوات والأرض إلا وتحتها من لطائف الحكمة وعجائبها ما تحار العقول فيها ولكن إنما ينكشف للقلوب الطاهرة بقدر صفائها بقدر رغبتها عن زهرة الدنيا وغرورها وغوائلها

التالي السابق


(الفائدة الثانية: التحصن من) وساوس (الشيطان) المسلط على الإنسان بشركه وشركه (وكسر التوقان) محركة منازعة النفس الأمارة (ودفع غوائل الشهوة) النفسية وردع مهالكها (وغض البصر) عما يليق النظر إليه (وحفظ الفرج) عن الحرام (وإليه الإشارة بقوله -صلى الله عليه وسلم-: " من نكح فقد حصن نصف دينه فليتق الله في الشطر الآخر ") تقدم قريبا بلفظ: " من تزوج فقد أحرز شطر دينه فليتق الله في الشطر الثاني "، وتقدم الكلام عليه (وإليه الإشارة) أيضا (بقوله: " عليكم بالباءة فمن لم يستطع فعليه بالصوم، فإن الصوم له وجاء ") وهذا أيضا قد تقدم بلفظ: " من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لا فليصم فإن الصوم له وجاء ". وتقدم الكلام عليه أيضا. وهذا اللفظ الذي ذكره المصنف هنا هو سياق حديث أنس رواه الطبراني في الأوسط، والضياء في المختارة .

وفي قوله: " فمن لم يستطع" أي مؤن النكاح أو نفس النكاح لعجزه عن المؤن مع توقانه إليه، فهذا لا يؤمر بالنكاح بل يفهم من الحديث أنه يطلب منه تركه لكونه -صلى الله عليه وسلم- أرشده إلى ما ينافيه ويضعف دواعيه وهو الصوم، وقد صرح أصحاب الشافعي بأن من هذه صفته يستحب له ترك النكاح، وزاد النووي في شرح مسلم فذكر أن النكاح له مكروه، وهو أبلغ في طلب الترك .

ومقتضى كلام الحنابلة استحباب النكاح للتائق من غير اعتبار القدرة على المؤن. وقال السراج البلقيني: الذي يدل له نص الشافعي رحمه الله تعالى أنه إن كان تائقا استحب، وإلا فهو مباح ولم يقل بأنه مستحب ولا مكروه وهي طريقة أكثر العراقيين، وسيأتي تمام هذا البحث قريبا .

وقوله: " فعليه بالصوم" قال المازري: إغراء بالغائب، ومن أصول النحويين أن لا يغرى بالغائب وقد جاء شاذا قولهم، عليه رجلا ليسني، على جهة الإغراء .

قال القاضي عياض: هذا الكلام موجود لابن قتيبة والزجاجي وعلى قائله أغاليط ثلاثة .

أولها: قوله لا يجوز الإغراء بالغائب وصوابه إغراء الغائب، وأما الإغراء بالغائب فجائز، وكذا نص أبو عبيدة في هذا الحديث، وكذا كلام سيبويه ومن بعده من أئمة هذا الشأن .

وثانيها: جعله قولهم: عليه رجلا ليسني من إغراء الغائب، وقد جعله سيبويه والسيرافي منه ورأياه شاذا، والذي عندي أنه ليس المراد بها حقيقة الإغراء وإن كانت صورته فلم يرد هذا القائل تبليغ هذا القائل ولا أمره بإلزام غيره، وإنما أراد الإخبار عن نفسه بقلة مبالاته بالغائب، وأنه غير متأت له منه ما يريد، فجاء بهذه الصورة يدل على ذلك. ونحوه قولهم إليك عني أي: اجعل شغلك بنفسك عني، وأنه لم يرد أن يغريه وإنما مراده دعني وكان كمن شغل عني .

وثالثها: عدهم هذه اللفظة في الحديث من إغراء الغائب، والصواب أنه ليس فيه إغراء الغائب جملة، والكلام فيه للحضور الذهني خاطبهم بقوله: " من استطاع منكم الباءة " فالهاء هنا ليست للغائب وإنما هي لمن خص من الحاضرين بعدم [ ص: 301 ] الاستطاعة إذ لا يصح خطابه مكان الخطاب؛ لأنه لم يتعين منهم ولإبهامه بلفظ: وإن كان حاضرا وهذا كثير في القرآن كقوله: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص إلى قوله: فمن عفي له من أخيه شيء وكقوله: كتب عليكم الصيام إلى قوله: فمن تطوع خيرا وكقوله: ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها فهذه الهاءات كلها ضمائر للحاضرين. اهـ. كلام القاضي.

قال الولي العراقي في شرح التقريب وعد الحديث وهذا المثال من إغراء الغائب باعتبار اللفظ، وإنكار القاضي ذلك باعتبار المعنى، وأكثر كلام العرب اعتبار اللفظ والله أعلم .

(وأكثر ما نقلناه من الآثار والأخبار إشارة إلى هذا المعنى) وهو التحرز عن غوائل النفس وغض البصر والفرج، (وهذا المعنى دون) المعنى (الأول) الذي هو تحصيل الولد؛ (لأن الشهوة موكل متقاض لتحصيل الولد، والنكاح كاف لشغله ودافع لجعله وصارف لشر سطوته، وليس من يجيب مولاه رغبة في تحصيل رضاه كمن يجيب لطلب الخلاص عن غائلة الموكلة) وبينهما بون، (فالشهوة والولد مقدمان وبينهما ارتباط) معنوي أحدهما متوقف على الآخر لولا تحصيل الولد ما ركبت الشهوة، وبالشهوة تتحرك دواعي الجماع فيكون ذلك سببا لحصول الولد، (وليس يجوز أن يقال المقصود) بذاته (اللذة) الحاصلة من الجماع، (والولد هو المقصود بالفطرة) الأصلية (والحكمة) الإلهية (والشهوة باعثة عليه) ومحركة له. (ولعمري في الشهوة حكمة أخرى سوى الإرهاق) أي: المداناة (إلى الإيلاد) وهو بمعنى الاستيلاد وغير ثبت... وصرح بعضهم بمنعه، ويجوز أولدت المرأة إيلادا بإسناد الفعل إليها إذا حان ولادها كما يقال حصد الزرع فلا يكون الرباعي إلا لازما، (وهو ما في قضائها) أي: تلك الشهوة (من اللذة التي لا توازيها) أي: لا تساويها ولا تقابلها (لذة لو دامت) ولكن دوامها غير حاصل، ولذا قالوا: هي لذة ساعة ولا يريدون بها الساعة الزمنية بل اللحظة التي يحصل له فيها الإقبال إلى الجماع، فإذا أولج وأنزل انقضت اللذة. وقالوا: لذة أسبوع دخول الحمام، ولذة سنة مضاجعة البكر، ولذة دهر محادثة الإخوان (فهي منبهة عن اللذات الموعودة في الجنان) ودالة عليها. (إذ الترغيب في لذة لم يجد لها ذواقا لا ينفع، فلو رغب العنين في لذة الجماع أو الصبي في لذة الملك والسلطنة لم ينفع الترغيب) ، والعنين إذا مثلنا له لذة الجماع فمثلها عنده بشيء من اللذات التي يدركها كلذة الطعام الحلو مثلا فنقول له: ألا تعرف أن السكر لذيذ، فإنك تجد عند تناوله حالة طيبة وتحس في نفسك راحة ؟ قال: نعم. قلنا: فالجماع كذلك. أفترى أن هذا يفهم حقيقة لذة الجماع كما هي حتى ينزل في معرفتها منزلة من ذاق تلك اللذة وأدركها، هيهات هيهات! إنما غاية هذا الوصف إبهام وتشبيه ومشاركة في الاسم، وحقيقة لذات الجنة لا يمكن أن نفهمها للراغب فيها إلا بالتشبيه بأعظم ما ناله من اللذات منها لذة الجماع، ولذات الجنة أبعد من كل لذة تدرك في الدنيا، بل العبارة الصحيحة عنها أنها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فإن مثلناها بالجماع قلنا كالجماع المعهود في الدنيا فكذلك قال المصنف: فهي منبهة على لذات الجنان. (فإحدى فوائد لذات الدنيا الرغبة في دوامها في الجنة ليكون باعثا على عبادة الله تعالى) ، وهذه دقيقة يتفطن لها. (فانظر إلى الحكمة) اللطيفة أولا، (ثم إلى الرحمة) من الله لخلقه في باطن تلك الحكمة، (ثم إلى التعبية) الإلهية (حيث عبيت) أي: رتبت، وأصله من تعبية الجيش والمتاع (تحت شهوة واحدة حياتان حياة ظاهرة وحياة باطنة، فالحياة الظاهرة حياة المرء ببقاء نسله، فإنه نوع من دوام الوجود) ، ولذا قال حكيم العرب: من لم يلد فكأنه ما ولد، فمن لم يكن له نسل فبماذا يسلو. (والحياة الباطنة هي الحياة الأخروية، فإن هذه اللذة الناقصة) المنصرمة (بسرعة الانصرام) أي: الانقطاع (تحرك الرغبة) ... والشوق (في) اللذة (الكاملة) الموعود بها (بلذة الدوام) من غير انصرام، (فتستحث على العبادة الموصلة إليها) إلى تلك اللذة الباقية، (فيستعد العبد بشدة الرغبة فيها ويستلذ بتيسير المواظبة على [ ص: 302 ] ما يوصله إلى نعيم الجنان) ولذاتها الباقية أبد الآباد (وما من ذرة من ذرات بدن الإنسان ظاهرا وباطنا بل من ذرات ملكوت السماوات والأرضين إلا وتحتها من لطائف الحكمة وعجائبها ما تحار العقول فيها) ، وهذا المعنى الذي أشار إليه الشيخ في الخطبة بقوله: لا تصادف سهام الأوهام في عجائب صنعته مجرى، ولا ترجع العقول عن أوائل بدائعها إلا والهة حيرى، وإليه الإشارة أيضا بقول التماثل:


وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد

( ولكن إنما ينكشف) ذلك ( للقلوب الظاهرة) من كدرات الظلمة الطبيعية ( بقدر صفائها) وانجلائها ( وبقدر رغبتها عن زهرة الدنيا وغرورها وإغوائها) وأرباب هذه القلوب هم أهل المكاشفة والمشاهدة المتخلقون بأخلاق الله تعالى تتضح لهم حقائق تلك الذرات بالبرهان الذي لا يجوز فيه الخطأ ما يجري في الوضوح مجرى اليقين الذي يدرك بمشاهدة الباطن لا بإحساس الظاهر، وأما من لم يكن له حظ في معانيها إلا معرفة أسمائها الظاهرة وفهم معانيها اللغوية ولم يعد عن ذلك فهو منحوس الحظ نازل الدرجة ليس يحسن به أن يتبجح بما ناله، ويرتقي أرباب هذه المراتب إلى مقام ينبعث من فهم تلك المعاني شوقهم إلى الاتصاف بما يمكن الاتصاف به حسبما يعطيه مقامه وهم أهل الحظوظ من المقربين .




الخدمات العلمية