الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة [ المجاز يحتاج إلى العلاقة أو القرينة ] المجاز يحتاج إلى العلاقة وإلى القرينة فالعلاقة هي المجوزة للاستعمال ، والقرينة هي الموجبة للحمل . فأما القرينة فلا بد للمجاز من قرينة تمنع من إرادة الحقيقة عقلا أو حسا أو عادة أو شرعا ، وهي إما خارجة عن المتكلم والكلام ، فالمتكلم كقوله تعالى : { واستفزز من استطعت منهم بصوتك } [ ص: 60 ] فالله - تعالى - لا يأمر بالمعصية ، أو من الكلام كقوله تعالى : { فمن شاء فليؤمن } فإن السياق وهو قوله : { إنا أعتدنا } يخرجه عن أن يكون للتخيير ، ولا خلاف في أنه لا بد من القرينة ، وإنما اختلفوا هل القرينة داخلة في مفهوم المجاز ، وهو رأي البيانيين أو شرط لصحته واعتباره ، وهو رأي الأصوليين ؟ .

                                                      وأما العلاقة فلا بد في التجوز من العلاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي ، ولا يكفي مجرد الاشتراك في أمر ما ، وإلا لجاز إطلاق كل شيء على ما عداه ، فجنس العلاقة شرط بالإجماع ، وشخصها ليس بشرط بالإجماع ، فإذا رأيناهم أطلقوا الشجاع على رجل لم يحتج إلى إطلاقهم بالنسبة إلى آخر ، ومحل الخلاف إنما هو في الأنواع ، أي : إذا علمنا أنهم أطلقوا اسم اللازم على الملزوم يكفينا هذا في إطلاق كل لازم على ملزومه ؟ أو لا بد في كل صورة من جزئيات إطلاق اللوازم على الملزومات من السماع عنهم في ذلك اللازم بعينه واللزوم بعينه . وهذا أقرب من قول بعضهم : إن الخلاف إنما هو في أنه هل يكتفى بالعلاقة التي نظر العرب إليها كإطلاق السبب على المسبب ، ويزيد عليه المسبب على السبب أو لا يتعدى علاقة السبب إلى علاقة أخرى ، وإن ساوتها ما لم تفعل العرب ذلك ؟ وهذا هو الخلاف في أن المجاز هل يتوقف على السمع ويشترط فيه الوضع أم لا ؟ فاختار ابن الحاجب وغيره الأول ، فهو يجوز إطلاق اللفظ باعتبار ما كان ، وإن لم تستعمله العرب لاستعمالهم ما هو نظيره أو دونه ، واختار إمام الحرمين في " التلخيص " والرازي وغيرهما [ ص: 61 ] الثاني ، وتوقف الآمدي .

                                                      وقال ابن الحاجب في أماليه " : الإنصاف أن المجاز إن كان باعتبار الألفاظ مفردة احتاج إلى النقل ، وإن كان باعتبار المعاني الحاصلة باعتبار تعدد الألفاظ مثل طلع فجر وعلا ، وشابت لمة رأسه ، وأشباهه ، لم يحتج إلى النقل لما علم من استعمال العلماء من كل طائفة أمثال ذلك ، في تصانيفهم وخطهم ورسائلهم ، فظهر أن الخلاف مخصوص بالأنواع ، لا في جزئيات المجاز المشخصة ، إن أوهمه كلام بعضهم ، فلا بد أن تضع العرب نوع التجوز بالكل إلى الجزء ، وبالسبب إلى المسبب وغيرهما من الأنواع . وأما وضعها التعبير بهذا الكل المعين أو التجوز بهذا المسبب المعين إلى هذا السبب فلا يشترطه أحد قطعا ، ولم تزل الأدباء في الأعصار والأمصار يكتفون بمجرد العلاقة من غير فحص عن الوضع . ويتحصل صور : أحدها : آحاد العلاقات أعني إذا وجدت علاقة لم ينقل عن العرب التجوز بها فهل يجوز أن يتجوز بها ؟ هذا موضع الخلاف كما ذكره الأصفهاني والقرافي في " شرح المحصول " وذكر جماعة من " شراح ابن الحاجب " منهم القطب الشيرازي أنه لا خلاف في امتناع هذا القسم . الثانية : العلاقة التي ثبت عن العرب اعتبارها ، وتجوزت بسببها إلى لفظة هل لنا أن نتجوز بتلك العلاقة بعينها للفظة أخرى ؟ كما إذا ثبت عنهم إطلاق الأسد على الشجاع للشجاعة ، فهل لنا أن نطلق عليه الليث كذلك ؟ وهو من موضع الخلاف على ما ذكره شراح " المختصر " .

                                                      [ ص: 62 ] الثالثة : أن يكون تحت العلاقة أنواع تحت كل نوع جهات ، فهل يكون أنواع الجزئيات ملحقة بما فوقها حتى يشترط فيها النقل قطعا أو بما تحتها حتى يكون محل الخلاف ؟ هذا فيه نظر . مثال : إذا ثبت أن من العلاقة المشابهة في صفة ظاهرة فإذا ثبت عنهم التجوز بصفة خاصة كصفة الشجاعة في لفظ الأسد للرجل الشجاع فأردنا أن نتجوز بصفة الكرم في لفظ البحر للجواد فالأقرب إلحاقه بالقسم الأول . الرابعة : إن ثبتت باعتبار نوع العلاقة الخاص بالنقل والتجوز في لفظة بعينها كإطلاق الأسد على شخص بعينه للشجاعة ، فهل لنا إطلاق الأسد على عمرو كذلك قطعا أو نلحقها بالثانية في الخلاف ؟ فيه نظر . والظاهر أنه لا يشترط قطعا . والحاصل : أن النقل واجب بالاتفاق في نوع العلاقة أعني النوع الأصلي ، وغير شرط بالاتفاق في مشخصات اللفظة الواحدة المستعملة مجازا في شخص بعينه ، ومختلف فيه فيما عدا ذلك ، وهو ما بين هاتين المرتبتين .

                                                      وقال صاحب " اللباب " من الحنفية : المجاز يقتضي المناسبة بين اللفظين في المعنى ، فكل لفظ جعل مجازا في غيره لا بد من وجود المشاركة بينهما في المعنى كالأسد استعير للشجاع والحمار للبليد ، والعتق للطلاق ونحوه . قال : واختلف أصحابنا في شرط آخر ، وهو كمال المعنى في المستعار منه ، هل هو شرط أم لا ؟ فمنهم من شرطه وإلا لم يكن العدول عن الحقيقة مفيدا ، ومنهم من قال : يجوز تساويهما في المعنى ، وقيل : هو مشترط في كمال البلاغة في الاستعارة نفسها فلا يحتاج إليه . وقال ابن السمعاني في " القواطع " : الحقيقة تتوقف على النقل عن واضع اللغة كالنصوص في باب الشعر ، وأما المجاز فاختلفوا فيه ، فذهب أبو زيد الدبوسي إلى أنه لا يعتبر فيه السماع ، بل يعتبر المعنى الذي اعتبره [ ص: 63 ] أهل اللغة ، ومنهم من اعتبره ، وكلامه يدل على أن هذا هو الخلاف في أن المجاز هل له عموم أم لا ؟ وفرع عليه امتناع استعمال اللفظ الواحد على الحقيقة والمجاز كالثوب الواحد لا يجوز أن يكون ملكا وعارية . ثم حكى ابن السمعاني عن بعض الحنفية : أن المعنى الذي اعتبره أهل اللغة في المجاز هو أن يكون بين المستعار منه والمستعار له اشتراك في المعنى ، وذلك المعنى في المستعار منه أبلغ وأبين ، ونقله عن أهل اللغة منهم علي بن عيسى الرماني .

                                                      قال : وإنما اشترطنا هذا ; لأن ترك الحقيقة مع القدرة على الاستعمال ، لها والميل إلى المجاز فيه نوع إيهام وتلبيس ، لا يجوز إلا لفائدة لا توجد في الحقيقة . قال : وهذا مثل قوله تعالى : { فاصدع بما تؤمر } معناه امتثل بما تؤمر ، فقد استعار قوله : " اصدع " مكان ، قوله : " امتثل " والصدع هو الشق ، والامتثال هو التأثير فإن الشق له تأثير في الشقوق ، والامتثال له أثر في المأمور به إلا أن تأثير الشق في الشقوق أبين من تأثير الامتثال في الممتثل ، فكان في المجاز زيادة بيان ، ولهذا يقال للشجاع من الناس : أسد لاشتراكهما في المعنى ، وهو الشجاعة ، وهذا المعنى في الأسد أبلغ ; لأنه أشجع الحيوان ، وكذا استعارة الحمار للبليد . وزعم علي هذا أنه لا يجوز جعل لفظ الطلاق كناية عن العتق ; لأن العتق أبلغ في الإزالة والطلاق دونه ، ولهذا لو قال الرجل لعبده الذي هو [ ص: 64 ] أكبر سنا منه : هذا ابني أنه يعتق ، ويصير قوله : هذا أبي أبلغ في إفادة الحرية ; لأنه يوجب الحرية قبل قوله بزمان كثير بخلاف قوله : أنت حر ، فإنه لا يوجبها إلا في الحال .

                                                      قال ابن السمعاني : وهذا الشرط الذي ذكره لا يعرف في استعمال المجاز ولم يذكره أحد من أهل اللغة . وأما الاستعارة في الكلام لضرب من التوسع ، ولتظهر براعة المتكلم ، وحسن بصيرته في الكلام واقتداره عليه ، وليس ; لأن الاستعارة أفادت معنى زائدا على ما يفيده التصريح ويدل ; لأن ما قالوه ليس بشرط استعارتهم لفظ المس للوطء والقربان للدخول ، وليس فيه زيادة على ما يفيده لفظ الجماع ، وأما إذا قال لغلامه الأكبر منه : هذا أبي فإنما لم يصلح عندنا مجازا عن العتق ; لأن اللفظ إنما يصلح مجازا إذا كان حقيقة ، وهذا اللفظ في هذا المحل لا حقيقة له ; لأنه لغو وهذيان . وإن قلتم : إن السبب في الجملة يوجب العتق ، فإنما يوجب في محل يتصور فيه السبب لا فيما لا يتصور استعماله فيه ، فليس استعماله فيه مجازا . ا هـ . ملخصا .

                                                      مسألة شرط قوم في العلاقة أن تكون ذهنية ، أي : أن يكون المعنى المتجوز يتبادر له الفهم عند سماع اللفظ ، وهو المختار في " المعالم " ، والصحيح : خلافه ; لأن أكثر المجازات المعتبرة عارية عن اللزوم الذهني .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية