الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين الفاء هنا لتفريع إثبات أن القرآن منزل من عند الله ونفي ما نسبه المشركون [ ص: 141 ] إليه ، تفريعا على ما اقتضاه تكذيبهم بالبعث من التعريض بتكذيب القرآن الذي أخبر بوقوعه ، وتكذيبهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - القائل إنه موحى به إليه من الله تعالى .

وابتدئ الكلام بالقسم تحقيقا لمضمونه على طريقة الإقسام الواردة في القرآن ، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى والصافات صفا .

وضمير ( أقسم ) عائد إلى الله تعالى .

جمع الله في هذا القسم كل ما الشأن أن يقسم به من الأمور العظيمة من صفات الله تعالى ومن مخلوقاته الدالة على عظيم قدرته إذ يجمع ذلك كله الصلتان بما تبصرون وما لا تبصرون ، فمما يبصرون : الأرض والجبال والبحار والنفوس البشرية والسماوات والكواكب ، وما لا يبصرون : الأرواح والملائكة وأمور الآخرة .

و لا أقسم صيغة تحقيق قسم ، وأصلها أنها امتناع من القسم امتناع تحرج من أن يحلف بالمقسم به خشية الحنث ، فشاع استعمال ذلك في كل قسم يراد تحقيقه ، واعتبر حرف ( لا ) كالمزيد كما تقدم عند قوله فلا أقسم بمواقع النجوم في سورة الواقعة ، ومن المفسرين من جعل حرف ( لا ) في هذا القسم إبطالا لكلام سابق وأن فعل ( أقسم ) بعدها مستأنف ، ونقض هذا بوقوع مثله في أوائل السور مثل : لا أقسم بيوم القيامة و لا أقسم بهذا البلد .

وضمير ( إنه ) عائد إلى القرآن المفهوم من ذكر الحشر والبعث ، فإن ذلك مما جاء به القرآن ومجيئه بذلك من أكبر أسباب تكذيبهم به ، على أن إرادة القرآن من ضمائر الغيبة التي لا معاد لها قد تكرر غير مرة فيه .

وتأكيد الخبر بحرف ( إن ) واللام للرد على الذين كذبوا أن يكون القرآن من كلام الله ونسبوه إلى غير ذلك .

والمراد بالرسول الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - كما يقتضيه عطف قوله ولو تقول علينا بعض الأقاويل ، وهذا كما وصف موسى ب رسول كريم في قوله تعالى ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم .

وإضافة ( قول ) إلى ( رسول ) ؛ لأنه الذي بلغه فهو قائله ، والإضافة لأدنى ملابسة وإلا فالقرآن جعله الله تعالى وأجراه على لسان النبيء - صلى الله عليه وسلم - ، كما صدر من جبريل بإيحائه بواسطته قال تعالى فإنما يسرناه بلسانك .

[ ص: 142 ] روى مقاتل أن سبب نزولها : أن أبا جهل قال : إن محمدا شاعر ، وأن عقبة بن أبي معيط قال : هو كاهن ، فقال الله تعالى إنه لقول رسول كريم الآية .

ويجوز أن يراد ب رسول كريم جبريل - عليه السلام - كما أريد به في سورة التكوير ؛ إذ الظاهر أن المراد به هنالك جبريل كما يأتي .

وفي لفظ ( رسول ) إيذان بأن القول قول مرسله ، أي الله تعالى . وقد أكد هذا المعنى بقوله عقبه تنزيل من رب العالمين .

ووصف الرسول ب ( كريم ) ؛ لأنه الكريم في صنفه ، أي النفيس الأفضل مثل قوله إني ألقي إلي كتاب كريم في سورة النمل .

وقد أثبت للرسول - صلى الله عليه وسلم - الفضل على غيره من الرسل بوصف ( كريم ) ، ونفي أن يكون شاعرا أو كاهنا بطريق الكناية عند قصد رد أقوالهم .

وعطف ولا بقول كاهن على جملة الخبر في قوله بقول شاعر ، و ( لا ) النافية تأكيد لنفي ( ما ) .

وكني بنفي أن يكون قول شاعر ، أو قول كاهن عن تنزيه النبيء - صلى الله عليه وسلم - عن أن يكون شاعرا أو كاهنا ، ردا لقولهم : هو شاعر أو هو كاهن .

وإنما خص هذان بالذكر دون قولهم : افتراه ، أو هو مجنون ؛ لأن الوصف بكريم كاف في نفي أن يكون مجنونا أو كاذبا إذ ليس المجنون ولا الكاذب بكريم ، فأما الشاعر والكاهن فقد كانا معدودين عندهم من أهل الشرف .

والمعنى : ما هو قول شاعر ولا قول كاهن تلقاه من أحدهما ونسبه إلى الله تعالى .

و قليلا في قوله قليلا ما تؤمنون قليلا ما تذكرون مراد به انتفاء ذلك من أصله على طريقة التمليح القريب من التهكم كقوله فلا يؤمنون إلا قليلا ، وهو أسلوب عربي ، قال ذو الرمة :


أنيحت ألقت بلدة فوق بلـدة قليل بها الأصوات إلا بغامها

فإن استثناء بغام راحلته دال على أنه أراد من " قليل " عدم الأصوات .

[ ص: 143 ] والمعنى : لا تؤمنون ولا تذكرون ، أي عندما تقولون هو شاعر وهو مجنون ، ولا نظر إلى إيمان من آمن منهم من بعد . وقد تقدم في سورة البقرة قوله فقليلا ما يؤمنون .

وانتصب ( قليلا ) في الموضعين على الصفة لمصدر محذوف يدل عليه ( تؤمنون ) و ( تذكرون ) ، أي تؤمنون إيمانا قليلا ، وتذكرون تذكرا قليلا .

و ( ما ) مزيدة للتأكيد كقول حاتم الطائي :


قليلا به ما يحمـدنـك وارث     إذا نال مما كنت تجمع مغنما

وجملتا قليلا ما تؤمنون قليلا ما تذكرون معترضتان ، أي انتفى أن يكون قول شاعر ، وانتفى أن يكون قول كاهن ، وهذا الانتفاء لا يحصل إيمانكم ولا تذكركم ؛ لأنكم أهل عناد .

وقرأ الجمهور ما تؤمنون ، و ما تذكرون كليهما بالمثناة الفوقية ، وقرأهما ابن كثير وهشام عن ابن عامر - واختلف الرواة عن ابن ذكوان عن ابن عامر - ويعقوب بالياء التحتية على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، وحسن ذلك كونهما معترضتين .

وأوثر نفي الإيمان عنهم في جانب انتفاء أن يكون قول شاعر ، ونفي التذكر في جانب انتفاء أن يكون قول كاهن ؛ لأن نفي كون القرآن قول شاعر بديهي ؛ إذ ليس فيه ما يشبه الشعر من اتزان أجزائه في المتحرك والساكن والتقفية المتماثلة في جميع أواخر الأجزاء ، فادعاؤهم أنه قول شاعر بهتان متعمد ينادي على أنهم لا يرجى إيمانهم ، وأما انتفاء كون القرآن قول كاهن فمحتاج إلى أدنى تأمل إذ قد يشتبه في بادئ الرأي على السامع من حيث إنه كلام منثور مؤلف على فواصل ، ويؤلف كلام الكهان على أسجاع مثناة متماثلة زوجين زوجين ، فإذا تأمل السامع فيه بأدنى تفكر في نظمه ومعانيه علم أنه ليس بقول كاهن ، فنظمه مخالف لنظم كلام الكهان ؛ إذ ليست فقراته قصيرة ولا فواصله مزدوجة ملتزم فيها السجع ، ومعانيه ليست من معاني الكهانة الرامية إلى الإخبار عما يحدث لبعض الناس من أحداث ، أو ما يلم بقوم من مصائب متوقعة ليحذروها ، فلذلك كان المخاطبون بالآية منتفيا عنهم التذكر والتدبر ، وإذا بطل هذا وذاك بطل مدعاهم فحق أنه تنزيل من رب العالمين كما ادعاه الرسول الكريم عليه الصلاة والتسليم .

[ ص: 144 ] وقوله تنزيل من رب العالمين خبر ثان عن اسم ( إن ) وهو تصريح بعد الكناية .

ولك أن تجعل تنزيل من رب العالمين خبر مبتدأ محذوف جرى حذفه على النوع الذي سماه السكاكي بمتابعة الاستعمال في أمثاله وهو كثير في الكلام البليغ ، وتجعل الجملة استئنافا بيانيا ؛ لأن القرآن لما وصف بأنه لقول رسول كريم ونفى عنه أن يكون قول شاعر أو قول كاهن ، ترقب السامع معرفة كنهه ، فبين بأنه منزل من رب العالمين على الرسول الكريم ليقوله للناس ويتلوه عليهم .

و ( تنزيل ) وصف بالمصدر للمبالغة .

والمعنى : إنه منزل من رب العالمين على الرسول الكريم .

وعبر عن الجلالة بوصف رب العالمين دون اسمه العلم للتنبيه على أنه رب المخاطبين ورب الشعراء والكهان الذين كانوا بمحل التعظيم والإعجاب عندهم نظير قول موسى لفرعون ربكم ورب آبائكم الأولين .

التالي السابق


الخدمات العلمية