الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( والمستحب لمن وجب عليه الحج بنفسه أو بغيره أن يقدمه لقوله تعالى { فاستبقوا الخيرات } ولأنه إذا أخره عرضه للفوات بحوادث الزمان ، ويجوز أن يؤخره من سنة إلى سنة ; لأن فريضة الحج نزلت سنة ست ، وأخر النبي صلى الله عليه وسلم الحج إلى سنة عشر من غير عذر ، فلو لم يجز التأخير لما أخره )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) : قوله : من غير عذر قد ينكر ، فيقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفتح مكة ولم يتمكن من الحج إلا في سنة ثمان ، وظاهر كلام المصنف أنه لم يحج من حين نزلت فريضة الحج ، وهذا اعتراض فاسد ; لأن مراد المصنف أن النبي صلى الله عليه وسلم تمكن سنة ثمان وسنة تسع وتمكن كثيرون من أصحابه ، ولم يحج ويحجوا إلا سنة عشر ، ولم يقل المصنف إنه تمكن من سنة ست . [ ص: 86 ] أما أحكام الفصل ففيه مسألتان ( إحداهما ) : المستحب لمن وجب عليه الحج بنفسه أو بغيره تعجيله ; لما ذكره المصنف ، ولحديث مهران بن صفوان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من أراد الحج فليعجل } رواه أبو داود بإسناده عن مهران ، ومهران هذا مجهول ، قال ابن أبي حاتم : سئل أبو زرعة عنه فقال : لا أعرفه إلا من هذا الحديث . ( الثانية ) إذا وجدت شروط وجوب الحج وجب التراخي على ما نص عليه الشافعي ، واتفق عليه الأصحاب إلا المزني ، فقال : هو على الفور فعلى المذهب يجوز تأخيره بعد سنة الإمكان ما لم يخش العضب ، فإن خشيه فوجهان : مشهوران في كتب الخراسانيين ، حكاهما إمام الحرمين والبغوي والمتولي وصاحب العدة وآخرون ، وقال الرافعي ( أصحهما ) : لا يجوز ; لأن الواجب الموسع لا يجوز تأخيره إلا بشرط أن يغلب على الظن السلامة إلى وقت فعله ، وهذا مفقود في مسألتنا ( والثاني ) : يجوز ; لأن أصل الحج على التراخي ، فلا يتغير بأمر محتمل ، قال المتولي : ويجري هذان الوجهان فيمن خاف أن يهلك ماله ، هل له تأخير الحج أم لا ؟ والله أعلم .

                                      ( فرع ) : في مذاهب العلماء في كون الحج على الفور أو التراخي . قد ذكرنا أن مذهبنا أنه على التراخي ، وبه قال الأوزاعي والثوري ومحمد بن الحسن ، ونقله الماوردي عن ابن عباس وأنس وجابر وعطاء وطاوس رضي الله عنهم وقال مالك وأبو يوسف : هو على الفور ، وهو قول المزني كما سبق ، وهو قول جمهور أصحاب أبي حنيفة ، ولا نص لأبي حنيفة في ذلك . واحتج لهم بقوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } وهذا أمر ، والأمر يقتضي الفور ، وبحديث ابن عباس السابق في هذا الفصل : { من [ ص: 87 ] أراد الحج فليعجل } وبالحديث الآخر السابق : { من لم يمنعه من الحج حاجة أو مرض حابس ، أو سلطان جائر ، فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا } ; ولأنها عبادة تجب الكفارة بإفسادها ، فوجبت على الفور كالصوم ; ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة كالجهاد ، قالوا : ولأنه إذا لزمه الحج وأخره إما أن تقولوا يموت عاصيا ، وإما غير عاص ( فإن قلتم : ) ليس بعاص خرج الحج عن كونه واجبا وإن ( قلتم : ) عاص ، فأما أن تقولوا عصا بالموت أو بالتأخير ، ولا يجوز أن يعصي بالموت ; إذ لا صنع له فيه ، فثبت أنه بالتأخير ، فدل على وجوبه على الفور . واحتج الشافعي والأصحاب بأن فريضة الحج نزلت بعد الهجرة ، وفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في رمضان سنة ثمان ، وانصرف عنها في شوال من سنته واستخلف عتاب بن أسيد ، فأقام الناس الحج سنة ثمان بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيما بالمدينة هو وأزواجه وعامة أصحابه ، ثم غزا غزوة تبوك في سنة تسع ، وانصرف عنها قبل الحج . فبعث أبا بكر رضي الله عنه فأقام الناس الحج سنة تسع ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأزواجه وعامة أصحابه قادرين على الحج غير مشتغلين بقتال ولا غيره ، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم بأزواجه وأصحابه كلهم سنة عشر ، فدل على جواز تأخيره ، هذا دليل الشافعي وجمهور الأصحاب .

                                      قال البيهقي : وهذا الذي ذكره الشافعي مأخوذ من الأخبار قال ( فأما ) نزول فرض الحج بعد الهجرة فكما قال . واستدل أصحابنا له بحديث كعب بن عجرة قال : { وقف علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، ورأسي يتهافت قملا ، فقال : يؤذيك هوامك ؟ قلت : نعم يا رسول الله . قال أبو داود : فقال : قد آذاك هوام رأسك ؟ قال : نعم ، قال فاحلق رأسك قال : ففي نزلت هذه الآية : { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية } إلى آخره } رواه البخاري مسلم ، قال [ ص: 88 ] أصحابنا : فثبت بهذا الحديث أن قوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه } إلى آخرها نزلت سنة ست من الهجرة وهذه الآية دالة على وجوب الحج ، ونزل بعدها قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } . وقد أجمع المسلمون على أن الحديبية كانت سنة ست من الهجرة في ذي القعدة وثبت بالأحاديث الصحيحة واتفاق العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا حنينا بعد فتح مكة ، وقسم غنائمها واعتمر من سنته في ذي القعدة ، وكان إحرامه بالعمرة من الجعرانة ، ولم يكن بقي بينه وبين الحج إلا أيام يسيرة ، فلو كان على الفور لم يرجع من مكة حتى يحج مع أنه هو وأصحابه كانوا حينئذ موسرين ، فقد غنموا الغنائم الكثيرة ولا عذر لهم ولا قتال ولا شغل آخر ، وإنما أخره صلى الله عليه وسلم عن سنة ثمان بيانا لجواز التأخير ، وليتكامل الإسلام والمسلمون ، فيحج بهم حجة الوداع ، ويحضرها الخلق فيبلغوا عنه الناس ، ولهذا قال في حجة الوداع { ليبلغ الشاهد منكم الغائب ولتأخذوا عني مناسككم } ونزل فيها قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } .

                                      قال أبو زرعة الرازي فيما رويناه عنه حضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع مائة ألف وأربعة عشر ألفا كلهم رآه وسمع منه ، فهذا قول الإمام أبي زرعة الذي لم يحفظ أحد من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كحفظه ، ولا ما يقاربه ( فإن قيل ) إنما أخره إلى سنة عشر لتعذر الاستطاعة لعدم الزاد والراحلة ، أو الخوف على المدينة والاشتغال بالجهاد ( فجوابه ) ما سبق قريبا . واحتج أصحابنا أيضا بحديث أنس رضي الله عنه قال : { نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع ، فجاءه رجل من أهل البادية فقال : يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك ، [ ص: 89 ] قال : صدق ، قال : فمن خلق السماء ؟ قال الله ، قال : فمن خلق الأرض ؟ قال : الله ، قال : فمن نصب هذه الجبال ؟ وجعل فيها ما جعل ؟ قال : الله ، قال : فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك ؟ قال : نعم ، قال : وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا ، قال : صدق . قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قال : وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا ، قال صدق ، قال : فبالذي أرسلك ، آلله أمرك هذا ؟ قال نعم ، قال : وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا ، قال : صدق ، قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال نعم ؟ قال : وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال : صدق } رواه مسلم في صحيحه في أول كتاب الإيمان بهذه الحروف ، وروى البخاري أصله . وفي رواية البخاري أن هذا الرجل ضمام بن ثعلبة ، وقدوم ضمام بن ثعلبة على النبي صلى الله عليه وسلم كان سنة خمس من الهجرة ، قاله محمد بن حبيب وآخرون ، وقال غيره سنة سبع ، وقال أبو عبيد : سنة تسع ، وقد صرح في هذا الحديث بوجوب الحج . واحتج أصحابنا أيضا بالأحاديث الصحيحة المستفيضة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في حجة الوداع من لم يكن معه هدي الإحرام بالحج ، ويجعله عمرة } ، وهذا صريح في جواز تأخير الحج مع التمكن .

                                      واحتج أصحابنا أيضا بأنه إذا أخره من سنة إلى سنة أو أكثر ، وفعله يسمى مؤديا للحج لا قاضيا بإجماع المسلمين ، هكذا نقل الإجماع فيه القاضي أبو الطيب وغيره ، ونقل الاتفاق عليه أيضا القاضي حسين وآخرون ولو حرم التأخير لكان قضاء لا أداء ( فإن قالوا ) هذا ينتقض بالوضوء ، فإنه إذا أخره حتى خرج وقت الصلاة ، ثم فعله كان أداء ، مع أنه يأثم بذلك ( قلنا : ) قد منع القاضي أبو الطيب كونه أداء في هذه الحالة . وقال : بل ، هو قضاء لبقاء الصلاة ; لأنه مقصود لها لا لنفسه وجواب آخر وهو أن الوضوء ليس له وقت محدود ، فلا يوصف بالقضاء بخلاف الحج ، وقد تقرر في الاصطلاح أن القضاء فعل العبادة خارج وقتها المحدود . [ ص: 90 ] واحتج أصحابنا أيضا بأنه إذا تمكن من الحج وأخره ، ثم فعله لا ترد شهادته فيما بين تأخيره وفعله بالاتفاق ، ولو حرم لردت لارتكابه المسيء ، قال إمام الحرمين في الأساليب : أسلوب الكلام في المسألة أن تقول : العبادة الواجبة ثلاثة أقسام : ( أحدها ) : ما يجب لدفع حاجة المساكين العاجزة وهو الزكاة ، فيجب على الفور ، لأن المعنى من مقصود الشرع بها .

                                      ( والثاني ) : ما تعلق بغير مصلحة المكلف ، وتعلق بأوقات شريفة كالصلاة وصوم رمضان ، فيتعين فعلها في الأوقات المشروعة لها ; لأن المقصود فعلها في تلك الأوقات .

                                      ( والثالث ) : عبادة تستغرق العمر وتبسط عليه حقيقة وحكما وهو الإيمان فيجب التدارك إليه ليثبت وجوب استغراق العمر به .

                                      ( والرابع ) : عبادة لا تتعلق بوقت ولا حاجة ولم تشرع مستغرقة للعمر ، وكانت مرة واحدة في العمر ، وهي الحج ، فحمل أمر الشرع بها للامتثال المطلق ، والمطلوب تحصيل الحج في الجملة ولهذا إذا فاتت الصلاة كان قضاؤها على التراخي لعدم الوقت المختص ، وكذا القياس في صوم رمضان إذا فات لا يختص قضاؤه بزمان ، ولكن تثبت آثار اقتضت غايته بمدة السنة ، هذا كله إذا قلنا إنه يقتضي الفور ، ولنا طريق آخر ، وهو أن المختار أن الأمر - مجردا عن القرائن - لا يقتضي الفور ، وإنما المقصود منه الامتثال المجرد ، ومن زعم أنه يقتضي الفور نقلنا الكلام إلى أصول الفقه ، ويمكن أن يقال : الحج عبادة لا تنال إلا بشق الأنفس ولا يتأتى الإقدام عليها بعينها بل يقتضي للتشاغل بأسبابها والنظر في الرفاق والطرق ، وهذا مع بعد المسافة يقتضي مهلة فسيحة لا يمكن ضبطها بوقت ، وهذا هو الحكمة في إضافة الحج إلى العمر ، ويمكن أن يجعل هذا قرينة في اقتضاء الأمر بالحج للتراخي فنقول : الأمر بالحج إما أن يكون مطلقا ، والأمر المطلق لا يقتضي الفور وإما أن يكون معه ما يقتضي التراخي كما ذكرناه ، هذا كلام إمام الحرمين رحمه الله . [ ص: 91 ] وأما ) الجواب عن احتجاج الحنفية بالآية الكريمة وأن الأمر يقتضي الفور ، فمن وجهين ( أحدهما ) : أكثر أصحابنا قالوا : إن الأمر المطلق المجرد عن القرائن لا يقتضي الفور ، بل هو على التراخي ، وقد سبق تقريره في كلام إمام الحرمين ، وهذا الذي ذكرته من أن أكثر أصحابنا عليه هو المعروف في كتبهم في الأصول ، ونقله القاضي أبو الطيب في تعليقه في هذه المسألة عن أكثر أصحابنا ( والثاني ) : أنه يقتضي الفور ، وهنا قرينة ودليل يصرفه إلى التراخي ، وهو ما قدمناه من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر أصحابه مع ما ذكره إمام الحرمين من القرينة المذكورة في آخر كلامه .

                                      ( وأما ) الحديث : { من أراد الحج فليعجل } ( فجوابه ) من أوجه ( أحدها ) : أنه ضعيف ( والثاني ) : أنه حجة لنا ، لأنه فوض فعله إلى إرادته واختياره ولو كان على الفور لم يفوض تعجيله إلى اختياره ( والثالث ) : أنه أمر ندب جمعا بين الأدلة ( وأما ) الجواب عن حديث { فليمت إن شاء يهوديا } فمن أوجه ( أحدها ) أنه ضعيف كما سبق ( والثاني ) : أن الذم لمن أخره إلى الموت ، ونحن نوافق على تحريم تأخيره إلى الموت ، والذي نقول بجوازه هو التأخير بحيث يفعل قبل الموت ( الثالث ) : أنه محمول على من تركه معتقدا عدم وجوبه مع الاستطاعة ، فهذا كافر ، ويؤيد هذا التأويل أنه قال : { فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا } وظاهره أنه يموت كافرا ، ولا يكون ذلك إلا إذا اعتقد عدم وجوبه مع الاستطاعة وإلا فقد أجمعت الأمة على أن من تمكن من الحج فلم يحج ومات لا يحكم بكفره ، بل هو عاص ، موجب تأويل الحديث لو صح والله أعلم .

                                      ( والجواب ) عن قياسهم على الصوم أن وقته مضيق فكان فعله مضيقا بخلاف الحج .

                                      ( والجواب ) عن قياسهم على الجهاد من وجهين ( أحدهما ) : جواب القاضي أبي الطيب وغيره : لا نسلم وجوبه على الفور بل هو موكول إلى [ ص: 92 ] رأي الإمام بحسب المصلحة في الفور والتراخي ( والثاني ) : أن في تأخير الجهاد ضررا على المسلمين بخلاف الحج .

                                      ( والجواب ) عن قولهم : إذا أخره ومات هل يموت عاصيا أن الصحيح عندنا موته عاصيا ، قال أصحابنا : وإنما عصى لتفريطه بالتأخير إلى الموت ، وإنما جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة كما إذا ضرب ولده أو زوجته ، أو المعلم الصبي ، أو عزر السلطان إنسانا فمات ، فإنه يجب الضمان ; لأنه مشروط بسلامة العاقبة ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية