الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الآفة الثانية : القصور عن القيام بحقهن والصبر على أخلاقهن واحتمال الأذى منهن وهذه دون الأولى في العموم فإن القدرة على هذا أيسر من القدرة على الأولى ، وتحسين الخلق مع النساء والقيام بحظوظهن أهون من طلب الحلال وفي هذا أيضا خطر ؛ لأنه راع ومسئول عن رعيته .

وقال صلى الله عليه وسلم : " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول .

"
وروي أن الهارب من عياله بمنزلة العبد الهارب الآبق لا تقبل له صلاة ولا صيام حتى يرجع إليهم ومن يقصر عن القيام بحقهن وإن كان حاضرا فهو بمنزلة هارب فقد قال تعالى قوا أنفسكم وأهليكم نارا أمرنا أن نقيهم النار كما نقي أنفسنا والإنسان قد يعجز عن القيام بحق نفسه ، وإذا تزوج تضاعف عليه الحق وانضافت إلى نفسه نفس أخرى والنفس أمارة بالسوء إن كثرت عليها الحقوق كثر الأمر بالسوء غالبا ولذلك اعتذر بعضهم من التزويج وقال : أنا مبتلى بنفسي وكيف أضيف إليها نفسا أخرى كما قيل .


لن يسع الفأرة جحرها علقت المكنس في دبرها

وكذلك اعتذر إبراهيم بن أدهم رحمه الله وقال : لا أغر امرأة بنفسي ولا حاجة لي فيهن أي من : القيام بحقهن وتحصينهن وإمتاعهن وأنا عاجز عنه وكذلك اعتذر بشر وقال : يمنعني من النكاح قوله تعالى : ولهن مثل الذي عليهن وكان يقول : لو كنت أعول دجاجة لخفت أن أصير جلادا على الجسر .

ورؤي سفيان ابن عيينة رحمه الله على باب السلطان فقيل له : ما هذا موقفك ؟ فقال : وهل رأيت ذا عيال أفلح وكان سفيان يقول .


يا حبذا العزبة والمفتاح     ومسكن تخرقه الرياح
لا صخب فيه ولا صياح

.

فهذه آفة عامة أيضا وإن كانت دون عموم الأولى لا يسلم منها إلا حكيم عاقل حسن الأخلاق بصير بعادات النساء صبور على لسانهن وقاف عن اتباع شهواتهن ، حريص على الوفاء بحقهن يتغافل عن زللهن ويداري بعقله أخلاقهن والأغلب على الناس السفه والفظاظة والحدة والطيش وسوء الخلق وعدم الإنصاف مع طلب تمام الإنصاف ومثل هذا يزداد بالنكاح فسادا من هذا الوجه لا محالة فالوحدة أسلم له .

التالي السابق


(الآفة الثانية: القصور عن القيام بحقوقهن) اللازمة في ذمته (والصبر على أخلاقهن) إذا ساءت (واحتمال الأذى منهن) بالسكوت والمجاراة والمغافلة، (وهذه دون الأولى) المذكورة (في العموم) والشمول ، (فإن القدرة على هذا أيسر) وأسهل (من القدرة الأولى، وتحسين الخلق مع النساء والقيام بحظوظهن) وفي نسخة: بحقوقهن (أهون من طلب الحلال) بكثير، (وفي هذا أيضا خطر؛ لأنه راع) في الجملة (ومسئول) من بين أيدي الله (عن رعيته) كيف رعاهم لما تقدم عن الصحيحين: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ". ومقتضى هذا العموم أن الإنسان راع في بيته وأهل بيته رعيته وهو مسئول عنهم في رعايته ، ومن هنا (قال صلى الله عليه وسلم: " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول") ، هكذا في "القوت ". والضيعة: التفريط فيما له غناء وثمرة إلى أن لا يكون غناء ولا ثمرة ، وعال اليتيم عولا إذا كفله وقام به. قال العراقي : رواه أبو داود والنسائي بلفظ: " من يقوت " وهو عند مسلم بلفظ آخر . اهـ .

قلت: ولم يذكر راويه وهو عبد الله بن عمرو بن العاص ، وكذلك رواه أحمد والطبراني والحاكم وصححه ، وأقره الذهبي وقال في الروض: إسناده صحيح رواه البيهقي ، وذكر له سببا وهو أن ابن عمرو كان ببيت المقدس فأتاه مولى له فقال: أقيم هنا رمضان. قال: هل تركت لأهلك ما يقوتهم ؟ قال: لا. قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. . . فذكره .

ورواه الطبراني في الكبير عن ابن عمر ، والدارقطني في الأفراد عن ابن مسعود. ومعنى " من يقوت" أي: من يلزمه قوته، وهذا صريح في وجوب نفقة من يقوت لتعليقه الإثم على تركه ، لكن إنما يتصور ذلك في موسر لا معسر ، فعلى القادر السعي على عياله لئلا يضيعهم فمع الخوف على ضياعهم هو مضطر إلى الطلب لهم لكن لا يطلب لهم إلا قدر الكفاية .

وأما لفظ مسلم الذي أشار له العراقي فهو ما رواه في كتاب الزكاة أن ابن عمر جاءه قهرمانه فقال: أعطيت الرقيق قوتهم ؟ قال: لا. قال: فانطلق فأعطهم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كفى إثما أن تحبس عمن تملك قوته " .

(وروي أن الهارب من عياله بمنزلة العبد الآبق) من سيده (لا تقبل له صلاة ولا صيام حتى يرجع إليهم) كذا نقله صاحب "القوت " (ومن يقصر عن القيام بحقهن) . وفي نسخة: بحقهم (وإن كان حاضرا) عندهم (فهو هارب) معنى (وقد قال) الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا (قوا أنفسكم وأهليكم نارا ) فأضاف الأهل إلى النفس و (أمر) نا (أن نقيهم النار) بتعليم الأمر والنهي (كما نقي أنفسنا) باجتناب النهي (والإنسان قد يعجز عن القيام بحق نفسه، وإذا تزوج تضاعف عليه الحق) ضعفين و (انضافت إلى نفسه نفس أخرى) فيعجز عن قيامه بحكم حال نفس أخرى ويعالج شيطانا آخر مع شيطانه (والنفس أمارة بالسوء وإن كثرت كثر الأمر بالسوء غالبا) فالتخلي لمن لا يقدر على معالجة شيطانين أفضل، وله في مجاهدة نفسه ومصابرة هواه أكبر الاشتغال (ولذلك اعتذر بعضهم عن التزويج) لما عرض عليه (وقال: أنا مبتلى بنفسي) مشغول في مجاهدتها (فكيف أضيف إليها نفسا أخرى) ، وهذا اعتذار صحيح إن لم يقدر على القيام [ ص: 319 ] بالحقين (كما قيل) في الأمثال... :


( لن يسع الفأرة في جحرها علقت المكنس في دبرها )

الفأرة حيوان معروف ، وجحرها بضم الجيم الذي تسكنه ، والمكنس بالكسر ما يكنس به ، والدبر بضم فسكون مخفف من الدبر بضمتين كما في: رسل ورسل يضرب مثلا لمن لا يقدر على تحمل شيء فيزيد عليه ما يثقله بالزيادة كما قالوا في قولهم: إنها لضغث على إبالة .

(وكذلك اعتذر إبراهيم بن أدهم) رحمه الله تعالى لما عرض عليه التزويج (وقال: لا أغر امرأة بنفسي ولا حاجة لي فيهن) رواه صاحب الحلية من الطريق، بقية بن الوليد. قال: لقيت إبراهيم بن أدهم بالساحل فقلت له: ما شأنك لا تتزوج ؟ قال: ما تقول في رجل غر امرأة وجوعها ؟ قلت : ما ينبغي هذا .

قال : فأتزوج امرأة تطلب ما يطلب النساء لا حاجة لي في النساء، وقد تقدم هذا بسنده في آخر باب الترغيب في النكاح ، ومعنى قوله: لا حاجة لي فيهن (أي: في القيام بحقهن) بأدوار الكفاية (وتحصينهن) بالجماع ونحوه (وإمتاعهن) بالمعروف (وأنا عاجز عنه) أي: عن جميع ما ذكر، (وكذلك اعتذر بشر) بن الحارث الحافي رحمه الله تعالى لما قيل له: ألا تتزوج ؟ فأعرض عنهم (وقال: يمنعني عن النكاح قوله تعالى: ولهن مثل الذي عليهن ) بالمعروف، وهذا أيضا قد تقدم ، ولما بلغ ذلك أحمد بن حنبل قال: ومن مثل بشر إنه قعد على مثل حد السنان، (وكان) بشر (يقول: لو كنت أعول) أي: أكفل (دجاجة خفت أن أصير جلادا على الجسر) نقله صاحب "القوت " والحلية ، وهذا أدنى من الأول .

(ورؤي سفيان) بن سعيد الثوري رحمه الله تعالى (على باب السلطان فقيل له: ما هذا موقفك؟) أي: فأي شيء أوقفك هنا ولست من أهله؟ (فقال: وهل رأيت ذا عيال أفلح) ، وهذا قد روي مرفوعا من حديث أبي هريرة " ما أفلح صاحب عيال قط " رواه الديلمي من طريق أيوب بن نوح المطوعي عن أبيه عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عنه ، وذكره ابن عدي في الكامل في ترجمة أحمد بن مسلمة الكوفي فقال: إن أحمد بن حفص السعدي حدث عنه ابن عيينة عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة مرفوعا بهذا. قال: وهو عن النبي صلى الله عليه وسلم منكر إنما هو كلام ابن عيينة . اهـ. وبهذا يظهر أن المراد بسفيان في قول المصنف هو ابن عيينة لا الثوري فتأمل، (وكان) سفيان (يقول) بتشوق إلى الوحدة:


( يا حبذا العزبة والمفتاح ومسكن تخرقه الرياح
لا صخب فيه ولا صياح )

العزبة بالضم اسم من اعتزب الرجل إذا انفرد عن الزوجة وقوله: والمفتاح أي: يكون عنده لا يفتح به غيره. والعازب بلا مفتاح ذليل ، وقوله: تخرقه الرياح أي: تهب عليه الرياح من كل سمت لا يمنعها مانع ، وقوله: لا صخب. . إلخ أشار به إلى قلة العيال والأولاد ، فإن من شأنهم يصخبون ويصيحون. (فهذا آفة عامة أيضا وإن كانت دون عموم الأولى لا يسلم منها إلا حكيم) أي: ذو حكمة (عاقل) سيوس (حسن الأخلاق) مهذب الأوصاف (بصير بعادات النساء) عن تجربة أو عن موهبة إلهية ، (صبور على لسانهن) مما يصدر من الأذى (وقاف) أي: كثير الوقوف (عن اتباع شهوتهن ، حريص على الوفاء بحقهن) مما أوجب الله عليه (يتغافل عن زللهن) ويسامح عن قصورهن (ويداري بعقله أخلاقهن) فإنهن خلقن من ضلع أعوج فلا سبيل إلى إقامتهن إلا بالمداراة والملاطفة وحسن المعاملة، (والأغلب على الناس السفه) وهو نقص في العقل تعرض به قصة . . . تحمله على العمل بالخلاف (والفظاظة) أي: الشدة (والحدة والطيش) خفة العقل (وسوء الخلق وعدم الإنصاف) من نفسه (مع طلب تمام الإنصاف) من غيره، (ومثل هذا يزداد بالنكاح فسادا من هذا الوجه لا محالة) ، فمن وجد في نفسه شيئا من تلك الأوصاف المذكورة (فالوحدة أسلم له) .




الخدمات العلمية