الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال : ( وإذا أكل الكلب من الصيد فقد خرج عن حكم المعلم ) ; لأن علامة المعلم فيه ترك الأكل ، وفي البازي الإجابة إذا دعاه ، فكما أن البازي إذا فر منه وامتنع من إجابته لا يكون معلما فكذلك الكلب إذا أكل من الصيد لا يكون معلما ، ويحرم ما عنده من صيوده قبل ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله ، ولا يحرم في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله من أصحابنا رحمهم الله من يقول : هذا إذا كان العهد قريبا بأخذ تلك الصيود ، فأما إذا تطاول عليه العهد بأن أتى عليه شهر أو نحو ذلك ، وقد قدر صاحبه صيوده لم تحرم تلك الصيود ; لأن في المدة الطويلة يتحقق النسيان ، فلا يكون ذلك دليلا على كونه غير معلم في ذلك الوقت ، وفي المدة القصيرة لا يتوهم نسيان الحرفة فتبين أنه كان عن غير علم حين اصطاد تلك الصيود ، وإنما لم يأكل منها للشبع لا للإمساك على صاحبه ، والأظهر أن الخلاف في الفصلين جميعا فهما يقولان قد حكمنا بالحل في الصيود المأخوذة ، وأكله من هذا الصيد محتمل قد يكون لفرط الجوع مع كونه معلما ، وقد يكون لإمساكه على نفسه وكونه غير معلم ، وما كان محكوما به لا يجوز إبطاله بالشك ، ولا معنى لقول من يقول : قد حكمنا بكونه جاهلا حتى قلنا : لا يؤكل هذا الصيد الذي أكل منه ، ولا ما يأخذه بعده ما لم يصر معلما إلا أنا إنما حكمنا بذلك لنوع اجتهاد مع بقاء الاحتمال ، والاجتهاد دليل يصلح للعمل به في المستقبل ، وليس بدليل لنوع اجتهاد مع بقاء الاحتمال ، والاجتهاد يصلح العمل به في المستقبل لا في بعض ما مضى بالاجتهاد ، والحل في الصيود المحرزة حكم أمضى بالاجتهاد وأبو حنيفة رحمه الله يقول : تبين أن ذلك صيد كلب جاهل ، فلا يؤكل منه كالصيد الذي أكل منه .

وبيان ذلك أن هذه الحرفة في الكلب إذا حصلت كانت ضرورية ، فلا ينسى أصلها ، ولكنها تضعف بالترك زمانا كالخياطة والرمي ونحوهما في الآدمي ، ولما وجب الحكم بكونه جاهلا في الحال تبين ضرورة أنه لم يكن معلما وأنه إنما ترك الأكل للشبع حتى لم يترك حين كان جائعا ، وهذا لأن الأكل وإن كان محتملا ، ولكن تعين فيه أحد الوجهين بدليل شرعي ، وهو كونه غير معلم حين حرم تناول هذا [ ص: 244 ] الصيد فسقط اعتبار احتمال وجه آخر ، وما قال أبو حنيفة رحمه الله أقرب إلى الاحتياط وعليه يبنى الحل والحرمة قال : ( ولا يحل صيده بعد ذلك حتى يصير معلما ) بأن يصيد به ثلاثا ، فلا يأكل منها فيحل حينئذ الرابع في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ، ولكن أبو حنيفة رحمه الله لم يؤقت فيه وقتا ، ولكن يقول : إذا صار عالما فكل من صيده ، وكذلك الخلاف في تعليمه في ابتداء أمره ، وعلى قولهما إنما يحصل بأن يجيبه إذا دعي ويرسله على الصيد فيصيده ، ولا يأكل منه ثلاث مرات ، ولم يؤقت فيه أبو حنيفة رحمه الله وقتا ، ولكنه قال : هو موكول إلى اجتهاد صاحبه ، فإن كان أكبر رأيه أنه صار معلما فهو معلم ، وربما قال : يرجع إلى أهل العلم به من الصيادين ، فإذا قالوا صار معلما فهو معلم ، وحجتنا في ذلك أن المعلم يمسك الصيد على صاحبه ، وعلامة ذلك أن لا يأكل منه إلا أن ترك الأكل قد يكون للشبع وقد يكون للإمساك على صاحبه ، فإذا ترك ذلك مرارا على الولاء يزول به هذا الاحتمال ، ونعلم أنه معلم لإمساكه على صاحبه ، وقدرنا ذلك بالثلاث ; لأنه حسن الاختيار .

والأصل فيه قصة موسى مع معلمه عليه السلام حيث قال في الثالثة { هذا فراق بيني وبينك } وكذلك الشرع قدر مدة الاختيار بثلاثة أيام للاختيار ، وقال عليه الصلاة والسلام { إذا استأذن أحدكم ثلاثا ولم يؤذن له فليرجع } ، وقال عمر رضي الله تعالى عنه إذا لم يربح أحدكم في التجارة ثلاث مرات فليرجع إلى غيرها وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول : نصب المقادير بالرأي لا يكون ، ولا مدخل للقياس فيه فيكون طريق معرفته الاجتهاد والرجوع إلى من له علم في ذلك الباب قال الله تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وهذا لأن احتمال الشبع كما يكون في المرة يكون في المرات ، ( وروى ) الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله مثل قولهما في التقدير بالثلاث إلا أن في تلك الرواية أبو حنيفة يقول : يؤكل الصيد الثالث ، وهما يقولان لا يؤكل الصيد الثالث ; لأنه إنما حكم بكونه معلما حين ترك الأكل من الثلاث ، وآخره لهذا الصيد كان قبل ذلك ، فلا يؤكل منه وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول : إنما يحكم بكونه معلما بطريق تعيين إمساكه الثالث على صاحبه ، وإذا حكمنا بأن يمسكه على صاحبه ، وقد أخذه بعد إرسال صاحبه حل التناول منه كالرابع .

التالي السابق


الخدمات العلمية