الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما ) [ ص: 193 ] ثم قال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ) .

                                                                                                                                                                                                                                            لما ذكر الله تعالى في النداء الثالث : ( ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ) [ الأحزاب : 45 ] بيانا لحاله مع أمته العامة قال للمؤمنين في هذا النداء لا تدخلوا ؛ إرشادا لهم وبيانا لحالهم مع النبي عليه السلام من الاحترام ، ثم إن حال الأمة مع النبي على وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : في حال الخلوة ، والواجب هناك عدم إزعاجه وبين ذلك بقوله : ( لا تدخلوا بيوت النبي ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : في الملأ ، والواجب هناك إظهار التعظيم كما قال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) [ الأحزاب : 56 ] وقوله : ( إلى طعام غير ناظرين إناه ) أي لا تدخلوا بيوت النبي إلى طعام إلا أن يؤذن لكم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما ) .

                                                                                                                                                                                                                                            لما بين من حال النبي أنه داع إلى الله بقوله : ( وداعيا إلى الله ) [الأحزاب : 46] قال ههنا : لا تدخلوا إلا إذا دعيتم يعني كما أنكم ما دخلتم الدين إلا بدعائه فكذلك لا تدخلوا عليه إلا بعد دعائه ، وقوله : ( غير ناظرين ) منصوب على الحال . والعامل فيه على ما قاله الزمخشري لا تدخلوا . قال : وتقديره ولا تدخلوا بيوت النبي إلا مأذونين غير ناظرين ، وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قوله : ( إلا أن يؤذن لكم إلى طعام ) إما أن يكون فيه تقديم وتأخير تقديره ولا تدخلوا إلى طعام إلا أن يؤذن لكم ، فلا يكون منعا من الدخول في غير وقت الطعام بغير الإذن ، وإما أن لا يكون فيه تقديم وتأخير فيكون معناه ولا تدخلوا إلا أن يؤذن لكم إلى طعام فيكون الإذن مشروطا بكونه إلى الطعام ، فإن لم يؤذن لكم إلى طعام فلا يجوز الدخول فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام لا يجوز ، نقول : المراد هو الثاني ليعم النهي عن الدخول ، وأما قوله فلا يجوز إلا بالإذن الذي إلى طعام ، نقول : قال الزمخشري : الخطاب مع قوم كانوا يجيئون حين الطعام ويدخلون من غير إذن فمنعوا من الدخول في وقته بغير إذن ، والأولى أن يقال المراد هو الثاني لأن التقديم والتأخير خلاف الأصل وقوله : ( إلى طعام ) من باب التخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه ، لا سيما إذا علم أن غيره مثله فإن من جاز دخول بيته بإذنه إلى طعامه جاز دخوله إلى غير طعامه بإذنه ، فإن غير الطعام ممكن وجوده مع الطعام ، فإن من الجائز أن يتكلم معه وقتما يدعوه إلى طعام ويستقضيه في حوائجه ويعلمه مما عنده من العلوم مع زيادة الإطعام ، فإذا رضي بالكل فرضاه بالبعض أقرب إلى الفعل ، فيصير من باب ( فلا تقل لهما أف ) [ الإسراء : 23 ] وقوله : ( غير ناظرين ) يعني أنتم لا تنتظروا وقت الطعام فإنه ربما لا يتهيأ .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 194 ] المسألة الثانية : قوله تعالى : ( ولكن إذا دعيتم فادخلوا ) فيه لطيفة ؛ وهي أن العادة إذا قيل لمن كان يعتاد دخول دار من غير إذن : لا تدخلها إلا بإذن ؛ يتأذى وينقطع بحيث لا يدخلها أصلا لا بالدعاء ولا بغير الدعاء ، فقال : لا تفعلوا مثل ما يفعله المستنكفون ، بل كونوا طائعين سامعين إذا قيل لكم : لا تدخلوا ؛ لا تدخلوا ، وإذا قيل لكم : ادخلوا ؛ فادخلوا ، وإناه : قيل : وقته ، وقيل : استواؤه . وقوله : ( إلا أن يؤذن ) يفيد الجواز ، وقوله : ( ولكن إذا دعيتم فادخلوا ) يفيد الوجود . فقوله : ( ولكن إذا دعيتم ) ليس تأكيدا بل هو يفيد فائدة جديدة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : لا يشترط في الإذن التصريح به ، بل إذا حصل العلم بالرضا جاز الدخول ، ولهذا قال : ( إلا أن يؤذن ) من غير بيان فاعل ، فالآذن إن كان الله أو النبي أو العقل المؤيد بالدليل جاز ، والنقل دال عليه حيث قال تعالى : ( أو صديقكم ) وحد الصداقة لما ذكرنا ، فلو جاء أبو بكر وعلم أن لا مانع في بيت عائشة من بيوت النبي عليه السلام من تكشف أو حضور غير محرم عندها ، أو علم خلو الدار من الأهل ، أو هي محتاجة إلى إطفاء حريق فيها أو غير ذلك ، جاز الدخول .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قوله : ( فإذا طعمتم فانتشروا ) كان بعض الصحابة أطال المكث يوم وليمة النبي عليه السلام في عرس زينب ، والنبي عليه السلام لم يقل له شيئا ، فوردت الآية جامعة لآداب ، منها المنع من إطالة المكث في بيوت الناس ، وفي معنى البيت موضع مباح اختاره شخص لعبادته أو اشتغاله بشغل فيأتيه أحد ويطيل المكث عنده ، وقوله : ( ولا مستأنسين لحديث ) قال الزمخشري : هو عطف على ( غير ناظرين ) مجرور ، ويحتمل أن يكون منصوبا عطفا على المعنى ، فإن معنى قوله تعالى : ( لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ) لا تدخلوها هاجمين ، فعطف عليه ( ولا مستأنسين ) ثم إن الله تعالى بين كون ذلك أدبا وكون النبي حليما بقوله : ( إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق ) إشارة إلى أن ذلك حق وأدب ، وقوله : (كان) إشارة إلى تحمل النبي عليه السلام ، ثم ذكر الله أدبا آخر وهو قوله : ( وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ) لما منع الله الناس من دخول بيوت النبي عليه السلام ، وكان في ذلك تعذر الوصول إلى الماعون ، بين أن ذلك غير ممنوع منه فليسأل وليطلب من وراء حجاب ، وقوله ( ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) يعني : العين روزنة القلب ، فإذا لم تر العين لا يشتهي القلب . أما إن رأت العين فقد يشتهي القلب وقد لا يشتهي ، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر ، وعدم الفتنة حينئذ أظهر ، ثم إن الله تعالى لما علم المؤمنين الأدب أكده بما يحملهم على محافظته ، فقال : ( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ) وكل ما منعتم عنه مؤذ فامتنعوا عنه ، وقوله تعالى : ( ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا ) قيل : سبب نزوله أن بعض الناس قيل هو طلحة بن عبيد الله ، قال : لئن عشت بعد محمد لأنكحن عائشة ، وقد ذكرنا أن اللفظ العام لا يغير معناه سبب النزول ، فإن المراد أن إيذاء الرسول حرام ، والتعرض لنسائه في حياته إيذاء ، فلا يجوز ، ثم قال : لا بل ذلك غير جائز مطلقا ، ثم أكد بقوله : ( إن ذلكم كان عند الله عظيما ) أي : إيذاء الرسول .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية