الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا

                                                          بين سبحانه في الآيات السابقة المحرمات، ونبه إلى ما كان يقع فيه أهل الجاهلية من استباحة بعض هذه المحرمات، كزواجهم ممن كانوا أزواجا لآبائهم، [ ص: 1649 ] وكاستباحتهم الجمع بين المرأة وأختها. وفي هذا النص الكريم يبين سبحانه أن ما قرره هو الهداية، وهو سنة الفطرة، وهو شريعة النبيين أجمعين. ثم بين سبحانه بالإشارة والعبارة أن تحصين الفروج مطلب ديني سام، وأن الإحصان حماية لمعنى الإنسانية وترفع عن الحيوانية. وفي هذا النص يبين سبحانه أن الذين يدعون إلى اتباع الأهواء والشهوات لا يريدون بأهل الإيمان الخير، ولكن يريدون أن تتحكم الأهواء والشهوات، وتسيطر وتدفع إلى العبث والحيوانية. وقد قال سبحانه: يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم معنى هذا النص الكريم أن الله تعالى يريد، بما شرع من أحكام، وما ذكر من محرمات، أن يبين ما فيه خيركم، وما فيه صلاح مجتمعكم، وما يعلو بكم من دركة الحيوان إلى سمو الإنسان، وما يجعل العلاقة بين الرجل والأنثى علاقة معنوية روحية، ولا تكون مادية حيوانية فقط، وما يحفظ النوع الإنساني متدرجا في سبيل الرقي، والسمو الروحي. ويريد سبحانه أن يبين سنن الذين من قبلكم، أي الطريقة المثلى التي كانت تسير عليها المجتمعات الفاضلة قبلكم، وما جاء به النبيون، وهدى إليه المرسلون، فيبين أن هذا هو سنن الذين من قبلكم وهو سنة الفطرة. ولم يصرح بأن ذلك هو ما جاء به النبيون، وإن كان ذلك مفهوما، بل صرح بأن هذا هو سنن الذين من قبلكم للإشارة إلى أنه أمر مشتق من الفطرة الإنسانية. وأن من يخالفه إنما يشذ عن مقتضى الفطرة وحكم العقل، وسنة الإنسانية. فبعض الملوك أو الأمم الذين استباحوا المحرمات كانوا في حكم الأجيال الإنسانية من الشذاذ؛ لأنهم خرجوا عن سنة الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

                                                          وفي النص القرآني الكريم مباحث لغوية لا بد من الإشارة إليها لتقريب المعنى السامي:

                                                          أولها - معنى اللام في قوله تعالى: يريد الله ليبين فإن له تخريجات مختلفة، منها أن المعنى: يريد الله- تعالى- ذكر ما ذكر من محرمات ويقصد إليه ليبين لكم، فاللام على هذا تكون للتعليل، و " أن " مضمرة بعدها - ومنها أن اللام [ ص: 1650 ] زائدة، وأن النصب بـ " أن " المحذوفة، وزيدت اللام لبيان أحكام إرادة الله سبحانه وتعالى في بيان ما يبين توثيق هذا البيان، وهذا ما اختاره الزمخشري في الكشاف - ومنها أن اللام هي الناصبة للفعل، وأنها بمعنى أن. فإن اللام قد تقوم مقام (أن) ، وذلك إذا كان الفعل قبلها يدل على الإرادة أو الأمر، ومن ذلك قوله تعالى: يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم وفي معناه في نصف آخر: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم وفي الأول ذكرت اللام بدل " أن " . وقوله تعالى: وأمرنا لنسلم لرب العالمين وفي معنى قريب منه: وأمرت أن أسلم وقوله تعالى: وأمرت لأعدل بينكم وهذا التخريج الأخير هو عند الكوفيين، والأولان عن البصريين، ونسب ثانيهما لسيبويه . وإن مفعول " يبين " محذوف، وقد دل عليه السياق، والمعنى: يبين لكم ما فيه مصلحتكم، وتكوين جماعتكم الفاضلة العفيفة النزهة الطيبة.

                                                          وثانيها - قوله تعالى: ويهديكم سنن الذين من قبلكم نرى أن " هدى " قد تعدت بنفسها هنا، ولم تعد بـ " إلى " ولا باللام، وإن ذلك جائز، فالفعل " هدى " يتعدى بنفسه كما في هذا النص، وباللام كما في قوله تعالى: الحمد لله الذي هدانا لهذا وقوله تعالى: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويتعدى بـ " إلى " كما في قوله تعالى: ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم وقوله تعالى: وهديناهم إلى صراط مستقيم وقوله تعالى: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع وفي الواقع أن اختيار القرآن الكريم للتعبيرات المختلفة من حيث إنه يعبر أحيانا بالتعدية بـ " إلى " ، وأخرى باللام، وثالثة بنفسها، يكون لمعان اقتضاها المقام. ويصح أن يقال: إنها تعدت هنا بنفسها لتضمنها معنى البيان وقبول الفطرة السليمة لهذا البيان، فمعنى يهديكم سنن الذين من قبلكم: بينها لكم بيانا مشفوعا بالقبول منكم لأنه الفطرة. [ ص: 1651 ] وثالثها: معنى (سنن الذين من قبلكم) : السنة هي الطريقة، وفي أكثر استعمالها تكون للطريقة المثلى الهادية إلى الحق، وسنن الذين من قبلكم قيل هي شرائع النبيين، والذي نراه هو أن السنن هي طرائق الذين سبقوكم من الأمم التي سارت على الفطرة، فحرمت هذه المحرمات بوصايا الأنبياء السابقين، وأحكام العقل المستقيم والطبع السليم.

                                                          ويتوب عليكم والله عليم حكيم قرن سبحانه وتعالى التوبة بعد هذا البيان لسببين:

                                                          أحدهما - أن يبين أن الله تعالى فاتح باب التوبة دائما، فمن تاب من الذنوب صغيرة أو كبيرة، فإن الله يتوب عليه، ويغفر له ما تقدم من ذنبه إذا كانت توبته نصوحا.

                                                          وثانيهما - أن الآيات السابقة تتضمن تحريما لأمور كان أهل الجاهلية يستبيحونها، فقد كانوا يستبيحون نكاح زوجات الآباء، ويستبيحون الجمع بين المحارم، ويستبيحون اتخاذ الأخدان، وهو ما يسمى اتخاذ الخلائل في عصرنا، وكانوا يثبتون بذلك النسب، فبين الله حرمة هذا كله، ولا تزال تطلع على طائفة من الناس يعيشون عيشة أهل الجاهلية في اتخاذ الأخدان، ويستبيحونها، وقد ذكر سبحانه وتعالى لهذا أن الله بين الحلال والحرام، وعلى المرتكب لأي محرم أن يقلع، وإن الله تعالى يتوب عليه، والتعبير عن قبول التوبة في كل المواضع " يتوب عليكم " في التعدي بـ " على " ؛ للإشارة إلى ما يتضمنه معنى قبول التوبة من ستر للذنوب، ومنع لكشفها، فهي غطاء على المعاصي يمنعها من الظهور، حتى يذهب تأثيرها في النفس، وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: " و الله عليم حكيم " للإشارة إلى أن الله ذا الجلال والإكرام والإنعام المستحق وحده للعبودية مطلع على كل ما يعمل الإنسان من خير وشر، وهو يعلم الذنوب التي يقع فيها العباد، وهو الذي يغفرها عند التوبة، وإنه سبحانه وتعالى حكيم يضع الأمور في مواضعها، فيغفر ويقبل التوبة من عباده إذا أخلصوا النية، واعتزموا الخير وأقلعوا عن الشر. وقد بين سبحانه محبته للتوبة فقال:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية