الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وإلى عاد أخاهم هودا معطوف على وأرسلنا نوحا : أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم : أي واحدا منهم ، و هودا عطف بيان وقوم عاد كانوا عبدة أوثان وقد تقدم مثل هذا في الأعراف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : هم عاد الأولى وعاد الأخرى ، فهؤلاء هم عاد الأولى وعاد الأخرى هم شداد ولقمان وقومهما المذكورون في قوله : إرم ذات العماد [ الفجر 7 ] ، وأصل عاد : اسم رجل ثم صار اسما للقبيلة كتميم وبكر ونحوهما ما لكم من إله غيره قرئ " غيره " بالجر على اللفظ ، وبالرفع على محل من إله ، وقرئ بالنصب على الاستثناء إن أنتم إلا مفترون أي ما أنتم باتخاذ إله غير الله إلا كاذبون على الله عز وجل .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم خاطبهم فقال : ياقوم لا أسألكم عليه أجرا أي لا أطلب منكم أجرا على ما أبلغه إليكم وأنصحكم به من الإرشاد إلى عبادة الله وحده وأنه لا إله لكم سواه ، فالضمير راجع إلى مضمون هذا الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم معنى هذا في قصة نوح إن أجري إلا على الذي فطرني أي ما أجري الذي أطلب إلا من الذي فطرني : أي خلقني فهو الذي يثيبني على ذلك أفلا تعقلون أن أجر الناصحين إنما هو من رب العالمين ، قيل : إنما قال فيما تقدم في قصة نوح : ما لا ، وهنا قال : أجرا لذكر الخزائن بعده في قصة نوح ، ولفظ المال بها أليق .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أرشدهم إلى الاستغفار والتوبة .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : اطلبوا مغفرته لما سلف من ذنوبكم ثم توسلوا إليه بالتوبة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم زيادة بيان لمثل هذا في قصة نوح ، ثم رغبهم في الإيمان بالخير العاجل ، فقال : يرسل السماء أي المطر عليكم مدرارا أي كثير الدرور ، [ ص: 662 ] وهو منصوب على الحال ، درت السماء تدر وتدر فهي مدرار ، وكان قوم هود أهل بساتين وزرع وعمارة ، وكانت مساكنهم الرمال التي بين الشام واليمن ويزدكم قوة إلى قوتكم معطوف على يرسل : أي شدة مضافة إلى شدتكم ، أو خصبا إلى خصبكم ، أو عزا إلى عزكم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : المعنى يزدكم قوة في النعم ولا تتولوا مجرمين أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه وتقيموا على الكفر مصرين عليه ، والإجرام : الآثام كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أجابه قومه بما يدل على فرط جهالتهم ، وعظيم غباوتهم ، قالوا يا هود ما جئتنا ببينة أي بحجة واضحة نعمل عليها ، ونؤمن لك بها غير معترفين بما جاءهم من حجج الله وبراهينه عنادا وبعدا عن الحق وما نحن بتاركي آلهتنا التي نعبدها من دون الله .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى عن قولك صادرين عن قولك ، فالظرف في محل نصب على الحال وما نحن لك بمؤمنين أي بمصدقين في شيء مما جئت به .

                                                                                                                                                                                                                                      إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء أي ما نقول إلا أنه أصابك بعض آلهتنا التي تعيبها وتسفه رأينا في عبادتها بسوء بجنون ، حتى نشأ عن جنونك ما تقوله لنا وتكرره علينا من التنفير عنها ، يقال : عراه الأمر واعتراه : إذا ألم به ، فأجابهم بما يدل على عدم مبالاته بهم وعلى وثوقه بربه وتوكله عليه ، وأنهم لا يقدرون على شيء مما يريده الكفار به ، بل الله سبحانه هو الضار النافع ف قال إني أشهد الله واشهدوا أنتم أني بريء مما تشركون به .

                                                                                                                                                                                                                                      من دونه أي من إشراككم من دون الله من غير أن ينزل به سلطانا فكيدوني جميعا أنتم وآلهتكم إن كانت كما تزعمون من أنها تقدر على الإضرار بي وأنها اعترتني بسوء ثم لا تنظروني أي لا تمهلوني ، بل عاجلوني واصنعوا ما بدا لكم ، وفي هذا من إظهار عدم المبالاة بهم وبأصنامهم التي يعبدونها ما يصك مسامعهم ، ويوضح عجزهم وعدم قدرتهم على شيء .

                                                                                                                                                                                                                                      إني توكلت على الله ربي وربكم فهو يعصمني من كيدكم ، وإن بلغتم في تطلب وجوه الإضرار بي كل مبلغ ، فمن توكل على الله كفاه .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم لما بين لهم توكله على الله وثقته بحفظه وكلاءته وصفه بما يوجب التوكل عليه والتفويض إليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم ، وأنه مالك للجميع ، وأن ناصية كل دابة من دواب الأرض بيده ، وفي قبضته وتحت قهره ، وهو تمثيل لغاية التسخير ونهاية التذليل ، وكانوا إذا أسروا الأسير وأرادوا إطلاقه ، والمن عليه جزوا ناصيته فجعلوا ذلك علامة لقهره .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الفراء : معنى آخذ بناصيتها مالكها والقادر عليها ، وقال القتيبي : قاهرها لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته ، والناصية قصاص الشعر من مقدم الرأس ، ثم علل ما تقدم بقوله : إن ربي على صراط مستقيم أي هو على الحق والعدل فلا يكاد يسلطكم علي .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن تولوا أي تتولوا فحذفت إحدى التاءين ، والمعنى فإن تستمروا على الإعراض عن الإجابة والتصميم على ما أنتم عليه من الكفر فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ليس علي إلا ذلك ، وقد لزمتكم الحجة ويستخلف ربي قوما غيركم جملة مستأنفة لتقرير الوعيد بالهلاك : أي يستخلف في دياركم وأموالكم قوما آخرين ويجوز أن يكون عطفا على فقد أبلغتكم .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى حفص عن عاصم أنه قرأ ويستخلف بالجزم حملا على موضع فقد أبلغتكم ولا تضرونه شيئا أي بتوليكم ، ولا تقدرون على كثير من الضرر ولا حقير إن ربي على كل شيء حفيظ أي رقيب مهيمن عليه يحفظه من كل شيء ، قيل : وعلى بمعنى اللام ، فيكون المعنى : لكل شيء حفيظ فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما جاء أمرنا أي عذابنا الذي هو إهلاك عاد نجينا هودا والذين آمنوا معه من قومه برحمة منا أي برحمة عظيمة كائنة منا لأنه لا ينجو أحد إلا برحمة الله ، وقيل هي الإيمان من عذاب غليظ أي شديد وقيل وهو السموم التي كانت تدخل أنوفهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وتلك عاد مبتدأ وخبر ، وأنث الإشارة اعتبارا بالقبيلة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الكسائي : إن من العرب من لا يصرف عادا ويجعله اسما للقبيلة جحدوا بآيات ربهم أي كفروا بها وكذبوها وأنكروا المعجزات وعصوا رسله أي هودا وحده ، لأنه لم يكن في عصره رسول سواه ، وإنما جمع هنا لأن من كذب رسولا فقد كذب جميع الرسل ، وقيل : إنهم عصوا هودا ومن كان قبله من الرسل ، أو كانوا بحيث لو بعث الله إليهم رسلا متعددين لكذبوهم واتبعوا أمر كل جبار عنيد الجبار المتكبر ، والعنيد : الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو عبيدة : العنيد العنود والعاند والمعاند ، وهو المعارض بالخلاف منه ، ومنه قيل للعرق الذي يتفجر بالدم عاند .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الراجز :


                                                                                                                                                                                                                                      إني كبير لا أطيق العندا

                                                                                                                                                                                                                                      وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة أي : ألحقوها ، وهي الإبعاد من الرحمة والطرد من الخير ، والمعنى أنها لازمة لهم لا تفارقهم ما داموا في الدنيا و أتبعوها يوم القيامة فلعنوا هنالك كما لعنوا في الدنيا ألا إن عادا كفروا ربهم أي بربهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الفراء : كفروا نعمة ربهم ، يقال : كفرته وكفرت به : مثل شكرته وشكرت له ألا بعدا لعاد قوم هود أي لا زالوا مبعدين من رحمة الله ، والبعد : الهلاك ، والبعد : التباعد من الخير ، يقال : بعد يبعد بعدا : إذا تأخر وتباعد ، وبعد يبعد بعدا : إذا هلك ، ومنه قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      لا يبعدن قومي الذين هم     سم العداة وآفة الجزر

                                                                                                                                                                                                                                      وقال النابغة :


                                                                                                                                                                                                                                      فلا تبعدن إن المنية منهل     وكل امرئ يوما به الحال زائل

                                                                                                                                                                                                                                      ومنه قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      ما كان ينفعني مقال نسائهم     وقتلت دون رجالهم لا تبعد

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم أن العرب تستعمله في الدعاء بالهلاك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة إلا على الذي فطرني أي خلقني .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن عساكر عن الضحاك قال : أمسك الله عن عاد [ ص: 663 ] القطر ثلاث سنين ، فقال لهم هود : استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا فأبوا إلا تماديا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ عن هارون التيمي في قوله : يرسل السماء عليكم مدرارا قال : المطر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : ويزدكم قوة إلى قوتكم قال : شدة إلى شدتكم .

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله : ويزدكم قوة إلى قوتكم قال : ولد الولد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال : أصابتك بالجنون .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن سعيد قال : ما من أحد يخاف لصا عاديا ، أو سبعا ضاريا ، أو شيطانا ماردا - فيتلو هذه الآية إلا صرفه الله عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد : إن ربي على صراط مستقيم قال : الحق .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : عذاب غليظ قال : شديد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : كل جبار عنيد قال : المشرك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : العنيد المشاق .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة قال : لم يبعث نبي بعد عاد إلا لعنت على لسانه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عن قتادة في الآية قال : تتابعت عليهم لعنتان من الله : لعنة في الدنيا ، ولعنة في الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية