الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 238 ] النوع الرابع والستون في إعجاز القرآن .

أفرده بالتصنيف خلائق : منهم الخطابي والرماني والزملكاني والإمام الرازي وابن سراقة ، والقاضي أبو بكر الباقلاني ، قال ابن العربي : ولم يصنف مثل كتابه .

اعلم أن المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم من المعارضة وهي إما حسية وإما عقلية :

وأكثر معجزات بني إسرائيل كانت حسية لبلادتهم وقلة بصيرتهم ، وأكثر معجزات هذه الأمة عقلية لفرط ذكائهم ، وكمال أفهامهم ، ولأن هذه الشريعة لما كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة خصت بالمعجزة العقلية الباقية ليراها ذوو البصائر ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا أخرجه البخاري .

قيل إن معناه : أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها ، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة ، وخرقه العادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات ، فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون يدل على صحة دعواه .

وقيل : المعنى أن المعجزات الواضحة الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار ، كناقة صالح ، وعصا موسى ، ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة فيكون من يتبعه لأجلها أكثر ، لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده ، والذي يشاهد بعين العقل باق ، يشاهده [ ص: 239 ] كل من جاء بعد الأول مستمرا .

قال في فتح الباري : ويمكن نظم القولين في كلام واحد فإن محصلهما لا ينافي بعضه بعضا .

ولا خلاف بين العقلاء أن كتاب الله تعالى معجز لم يقدر واحد على معارضته بعد تحديهم بذلك ، قال تعالى : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله [ التوبة : 6 ] . فلولا أن سماعه حجة عليه لم يقف أمره على سماعه ولا يكون حجة إلا وهو معجزة .

وقال تعالى : وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم [ العنكبوت : 50 ، 51 ] . فأخبر أن الكتاب آية من آياته كاف في الدلالة ، قائم مقام معجزات غيره وآيات من سواه من الأنبياء ، ولما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ، وكانوا أفصح الفصحاء ومصاقع الخطباء ، وتحداهم على أن يأتوا بمثله ، وأمهلهم طول السنين فلم يقدروا ، كما قال تعالى : فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين [ يونس : 38 ] ثم تحداهم بعشر سور منه في قوله تعالى : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله [ هود : 13 ، 14 ] . ثم تحداهم بسورة في قوله : أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله [ يونس : 38 ] . الآية ، ثم كرر في قوله : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله [ البقرة : 23 ] . الآية ، فلما عجزوا عن معارضته والإتيان بسورة تشبهه على كثرة الخطباء والبلغاء نادى عليهم بإظهار العجز ، وإعجاز القرآن فقال : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [ الإسراء : 88 ] .

هذا وهم الفصحاء اللد ، وقد كانوا أحرص شيء على إطفاء نوره وإخفاء أمره ، فلو كان في مقدرتهم معارضته لعدلوا إليها قطعا للحجة ، ولم ينقل عن أحد منهم أنه حدث نفسه بشيء من ذلك ولا رامه ، بل عدلوا إلى العناد تارة ، وإلى الاستهزاء أخرى ، فتارة قالوا : سحر ، وتارة قالوا : شعر ، وتارة قالوا : أساطير الأولين . كل ذلك من التحير والانقطاع ثم رضوا بتحكيم السيف في أعناقهم ، وسبي ذراريهم وحرمهم واستباحة أموالهم ، وقد كانوا آنف شيء ، وأشده حمية فلو علموا أن الإتيان بمثله في قدرتهم لبادروا إليه ، لأنه كان أهون [ ص: 240 ] عليهم .

كيف وقد أخرج الحاكم عن ابن عباس قال : جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رق له ، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال : يا عم ، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه ، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله ، قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالا ، قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك كاره له ، قال : وماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ، ولا برجزه ، ولا بقصيده ، ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ، ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، وإنه ليحطم ما تحته . قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال : دعني حتى أفكر ، فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره .

قال الجاحظ : بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا ، وأحكم ما كانت لغة وأشد ما كانت عدة ، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته ، فدعاهم بالحجة فلما قطع العذر ، وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية ، دون الجهل والحيرة ، حملهم على حظهم بالسيف ، فنصب لهم الحرب ونصبوا له ، وقتل من عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم ، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن ، ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذبا بسورة واحدة ، أو بآيات يسيرة .

فكلما ازداد تحديا لهم بها وتقريعا لعجزهم عنها تكشف من نقصهم ما كان مستورا ، وظهر منه ما كان خفيا ، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له : أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف ، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا قال : فهاتوها مفتريات فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر ، ولو طمع فيه لتكلفه ، ولو تكلفه لظهر ذلك ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ، ويكايد فيه ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض .

فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم واستحالة لغتهم ، وسهولة ذلك عليهم ، وكثرة شعرائهم ، وكثرة من هجاه منهم ، وعارض شعراء أصحابه ، وخطباء أمته لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله ، وأفسد لأمره ، وأبلغ في تكذيبه وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس ، والخروج من الأوطان ، وإنفاق الأموال .

[ ص: 241 ] وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش ، والعرب في الرأي والعقل بطبقات ، ولهم القصيد العجيب ، والرجز الفاخر ، والخطب الطوال البليغة ، والقصار الموجزة ، ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور .

ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم ، فمحال - أكرمك الله - أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر ، والخطأ المكشوف البين مع التقريع بالنقص ، والتوقيف على العجز ، وهم أشد الخلق أنفة ، وأكثرهم مفاخرة ، والكلام سيد عملهم ، وقد احتاجوا إليه والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض ، فكيف بالظاهر ، وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثا وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة ، فكذلك محال أن يتركوه ، وهم يعرفونه ويجدون السبيل إليه وهم يبذلون أكثر منه . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية