الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل الرابع : إبطال الحجج

          في إبطال حجج من قال : إنها نوم احتجوا بقوله - تعالى - : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك [ الإسراء : 60 ] ، فسماها رؤيا .

          قلنا : قوله سبحانه وتعالى - : الذي أسرى بعبده [ الإسراء : 1 ] يرده ، لأنه لا يقال في النوم : أسرى .

          وقوله : فتنة للناس . يؤيد أنها رؤيا عين وإسراء بشخص ؛ إذ ليس في الحلم فتنة . ولا يكذب به أحد ، لأن كل أحد يرى مثل ذلك في منامه من الكون في ساعة ، واحدة في أقطار متباينة .

          على أن المفسرين قد اختلفوا في هذه الآية ، فذهب بعضهم إلى أنها نزلت في قضية الحديبية ، وما وقع في نفوس الناس من ذلك ، وقيل غير هذا .

          وأما قولهم : إنه قد سماها في الحديث مناما .

          وقوله في حديث آخر : بين النائم ، واليقظان .

          وقوله أيضا : وهو نائم . وقوله : ثم استيقظت . فلا حجة فيه ، إذ قد يحتمل أن أول وصول الملك إليه كان وهو نائم ، أو أول حمله ، والإسراء به [ ص: 234 ] وهو نائم ، وليس في الحديث أنه كان نائما في القصة كلها إلا ما يدل عليه : ثم استيقظت ، وأنا في المسجد الحرام ، فلعل قوله : استيقظت بمعنى أصبحت ، أو استيقظ من نوم آخر بعد وصوله بيته .

          ويدل عليه أن مسراه لم يكن طول ليله ، وإنما كان في بعضه .

          وقد يكون قوله : استيقظت وأنا في المسجد الحرام لما كان غمره من عجائب ما طالع من ملكوت السماوات والأرض ، وخامر باطنه من مشاهدة الملأ الأعلى ، وما رأى من آيات ربه الكبرى ، فلم يستفق ، ويرجع إلى حال البشرية إلا وهو بالمسجد الحرام .

          ووجه ثالث أن يكون نومه ، واستيقاظه حقيقة على مقتضى لفظه ، ولكنه أسري بجسده ، وقلبه حاضر ، ورؤيا الأنبياء حق ، تنام أعينهم ، ولا تنام قلوبهم .

          وقد مال بعض أصحاب الإشارات إلى نحو من هذا . قال : تغميض عينيه لئلا يشغله شيء من المحسوسات عن الله - تعالى - .

          ولا يصح هذا أن يكون في وقت صلاته بالأنبياء ، ولعله كانت له في هذا الإسراء حالات .

          ووجه رابع : وهو أن يعبر بالنوم هاهنا عن هيئة النائم من الاضطجاع ، ويقويه قوله في رواية عبد بن حميد ، عن همام : بينا أنا نائم ، وربما قال : مضطجع .

          وفي رواية هدبة ، عنه : بينا أنا نائم في الحطيم ، وربما قال : في الحجر مضطجع وقوله في الرواية الأخرى : بين النائم ، واليقظان . فيكون سمى هيئته بالنوم لما كانت هيئة النائم غالبا .

          وذهب بعضهم إلى أن هذه الزيادات : من النوم ، وذكر شق البطن ، ودنو الرب عز وجل الواقعة في هذا الحديث إنما هي من رواية شريك عن أنس ، فهي منكرة من روايته ، إذ شق البطن في الأحاديث الصحيحة إنما كان في صغره - صلى الله عليه وسلم - ، وقبل النبوة ، ولأنه قال في الحديث : قبل أن يبعث ، والإسراء بإجماع كان بعد المبعث ، فهذا كله يوهن ما وقع في رواية أنس ، مع أن أنسا قد بين من غير طريق أنه إنما رواه [ ص: 235 ] عن غيره ، وأنه لم يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال مرة عن مالك بن صعصعة ، وفي كتاب مسلم : لعله عن مالك بن صعصعة على الشك . وقال مرة : كان أبو ذر يحدث .

          وأما قول عائشة : ما فقدت جسده ، فعائشة لم تحدث به عن مشاهدة ، لأنها لم تكن حينئذ زوجه ، ولا في سن من يضبط ، ولعلها لم تكن ولدت بعد ، على الخلاف في الإسراء متى كان فإن الإسراء كان في أول الإسلام على قول الزهري ، ومن وافقه بعد المبعث بعام ونصف ، وكانت عائشة في الهجرة بنت نحو ثمانية أعوام .

          وقد قيل : كان الإسراء لخمس قبل الهجرة ، وقيل : قبل الهجرة بعام . والأشبه أنه لخمس .

          والحجة لذلك تطول ، وليست من غرضنا ، فإذا لم تشاهد ذلك عائشة دل أنها حدثت بذلك عن غيرها ، فلم يرجح خبرها على خبر غيرها ، وغيرها يقول خلافه مما وقع نصا في حديث أم هانئ ، وغيره .

          وأيضا فليس حديث عائشة - رضي الله عنها - بالثابت ، والأحاديث الأخر أثبت ، ولسنا نعني حديث أم هانئ ، وما ذكرت فيه خديجة .

          وأيضا فقد روي في حديث عائشة : [ ما فقدت ] ، ولم يدخل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بالمدينة .

          وكل هذا يوهنه ، بل الذي يدل عليه صحيح قولها : إنه بجسده ، لإنكارها أن تكون رؤياه لربه رؤيا عين ، ولو كانت عندها مناما لم تنكره .

          فإن قيل : فقد قال - تعالى - : ما كذب الفؤاد ما رأى [ النجم : 11 ] فقد جعل ما رآه للقلب ، وهنا يدل على أنه رؤيا نوم ، ووحي ، لا مشاهدة عين ، وحس .

          قلنا : يقابله قوله - تعالى - : ما زاغ البصر وما طغى [ النجم : 17 ] فقد أضاف الأمر للبصر .

          وقد قال أهل التفسير في قوله - تعالى - . ما كذب الفؤاد ما رأى [ النجم : 11 ] ، أي لم يوهم القلب العين غير الحقيقة ، بل صدق رؤيتها . وقيل : ما أنكر قلبه ما رأته عينه .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية