الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (175) قوله تعالى : إنما ذلكم الشيطان : "إنما " حرف مكفوف بـ "ما " عن العمل ، وقد تقدم القول فيها أول هذا الكتاب . وفي إعراب هذه الجملة خمسة أوجه ، أحدها : أن يكون "ذلكم " مبتدأ و "الشيطان " خبره ، و يخوف أولياءه حال بدليل قوع الحال الصريحة في مثل هذا التركيب نحو : وهذا بعلي شيخا فتلك بيوتهم خاوية .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أن يكون "الشيطان " بدلا أو عطف بيان ، و "يخوف " الخبر ذكره أبو البقاء . الثالث : أن كون "الشيطان " نعتا لاسم الإشارة ، و "يخوف " الخبر ، على أن يراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان . ذكره الزمخشري . قال [ ص: 492 ] الشيخ : "وإنما قال : " والمراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان "لأنه لا يكون نعتا والمراد به إبليس لأنه إذ ذاك يكون علما بالغلبة كالعيوق ، إذ هو في الأصل صفة ثم غلب على إبليس " وفيه نظر . الرابع : أن يكون "ذلكم " ابتداء وخبرا ، و "يخوف " جملة مستأنفة بيان لشيطنته ، والمراد بالشيطان هو المثبط للمؤمنين . الخامس : أن يكون : "ذلكم " مبتدأ ، و "الشيطان " مبتدأ ثان ، و "يخوف " خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول قاله ابن عطية . وقال "وهذا الإعراب خير في تناسق المعنى من أن يكون " الشيطان "خبر " ذلكم "لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة .

                                                                                                                                                                                                                                      ورد عليه الشيخ هذا الإعراب إن كان الضمير في " أولياءه "عائدا على الشيطان ؛ لخلو الجملة الواقعة خبرا من رابط يربطها بالمبتدأ وليست نفس المبتدأ في المعنى نحو : " هجيري أبي بكر : لا إله إلا الله " ، وإن عاد على " ذلكم "ويراد بذلكم غير الشيطان جاز ، ويصير نظير : " إنما هند زيد يضرب عبدها "والمعنى : إنما ذلكم الركب أو أبو سفيان الشيطان يخوفكم أنتم أولياءه أي : أولياء الركب أو أولياء أبي سفيان .

                                                                                                                                                                                                                                      والمشار إليه بـ " ذلكم "هل هو عين أو معنى ؟ فيه احتمالان ، أحدهما : أنه إشارة إلى ناس مخصوصين كنعيم وأبي سفيان وأشياعهما على ما تقدم . والثاني : أنه إشارة إلى جميع ما جرى من أخبار الركب وإرسال أبي سفيان وجزع من جزع ، وعلى هذا التقدير فلا بد من حذف مضاف أي : فعل [ ص: 493 ] الشيطان ، وقدره الزمخشري : " قول الشيطان "أي : قوله السابق وهو إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم وعلى كلا التقديرين - أعني كون الإشارة لأعيان أو معان - فالإخبار بالشيطان عن " ذلكم "مجاز ، لأن الأعيان المذكورين والمعاني من الأقوال والأفعال الصادرة من الكفار ليست نفس الشيطان ، وإنما لما كانت بسببه ووسوسته جاز ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : يخوف أولياءه قد تقدم ما محله من الإعراب ، والتضعيف فيه للتعدية ، فإنه قبل التضعيف متعد إلى واحد وبالتضعيف يكتسب ثانيا ، وهو من باب أعطى ، فيجوز حذف مفعوليه أو أحدهما اقتصارا واختصارا ، وهو في الآية الكريمة يحتمل أوجها ، أحدها : أن يكون المفعول الأول محذوفا تقديره : يخوفكم أولياءه ، ويقوي هذا التقدير قراءة ابن عباس وابن مسعود هذه الآية كذلك ، والمراد بأوليائه هنا الكفار ، ولا بد من حذف مضاف أي : شر أوليائه ، لأن الذوات لا يخاف منها . والثاني : أن يكون المفعول الثاني هو المحذوف ، و "أولياءه " هو الأول ، والتقدير : يخوف أولياءه شر الكفار ، ويكون المراد بأوليائه على هذا الوجه المنافقون ومن [في ] قلبه مرض ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج ، والمعنى : أن تخويفه بالكفار إنما يحصل للمنافقين الذي هم أولياؤه ، وأما أنتم فلا يصل إليكم تخويفه . والثالث - ذكره بعضهم - أن المفعولين محذوفان ، و "أولياءه " نصب على إسقاط حرف الجر ، والتقدير : يخوفكم الشر بأوليائه ، والباء للسبب أي : بسبب أوليائه ، فيكونون هم آلة التخويف ، وكأن هذا القائل رأى قراءة أبي والنخعي : " يخوف بأوليائه " فظن أن قراءة الجمهور مثلها في الأصل ، ثم [ ص: 494 ] حذفت الباء ، وليس كذلك ، بل تخريج قراءة الجمهور على ما تقدم ، إذ لا حاجة إلى ادعاء ما لا ضرورة له . وأما قراءة أبي فتحتمل الباء أن تكون زائدة كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1495 - ... ... ... ... سود المحاجر لا يقرأن بالسور



                                                                                                                                                                                                                                      فتكون كقراءة الجمهور في المعنى ، ويحتمل أن تكون للسبب والمفعولان محذوفان كما تقدم تقريره .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : فلا تخافوهم في الضمير المنصوب ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنه يعود على أوليائه أي : فلا تخافوا أولياء الشيطان ، هذا إن أريد بالأولياء كفار قريش . والثاني : أن يعود على "الناس " من قوله : إن الناس قد جمعوا لكم إن كان المراد بأوليائه المنافقون . والثالث : أن يعود على الشيطان على المعنى . قال أبو البقاء : "إنما جمع الضمير لأن الشيطان جنس " . والياء في قوله : "وخافون " من الزوائد ، فأثبتها أبو عمرو وصلا ، وحذفها وقفا على قاعدته ، والباقون يحذفونها مطلقا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : إن كنتم مؤمنين جوابه محذوف أو متقدم عند من يرى ذلك ، وهذا من باب الإلهاب والتهييج ، وإلا فهم متلبسون بالإيمان .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية