الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 169 ] 433 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : والخال وارث من لا وارث له

2748 - حدثنا عبد الله بن أحمد بن زكريا بن الحارث بن أبي ميسرة المكي أبو يحيى ، وإبراهيم بن أبي داود جميعا قالا : حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن بديل بن ميسرة العقيلي ، عن علي بن أبي طلحة ، عن راشد بن سعد ، عن أبي عامر الهوزني ، عن المقدام الكندي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ، فمن ترك كلا أو ضيعة فإلي ، ومن ترك مالا فهو لورثته ، وأنا مولى من لا مولى له ، أرث ماله وأفك عانه ، والخال وارث من لا وارث له ، يرث ماله ويفك عانه .

[ ص: 170 ] قال : فكان هذا الحديث مما يحتج به من كان يذهب إلى توريث ذوي الأرحام ، ويقتدي في ذلك بمن كان يذهب إليه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم ، فعارض الذاهبون إلى ذلك ، المحتجون فيه بهذا الحديث ، المقتدون فيه بمن ذكرنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قال : إن الخال الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إنما هو الذي يجمع مع الخؤولة للمتوفى العصبة له من قبل آبائه ، وذكر في ذلك .

[ ص: 171 ]

2749 - ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، وما قد حدثنا ابن أبي مغيرة ، قال : حدثنا بدل بن المحبر قالا : حدثنا شعبة ، عن بديل بن ميسرة ، عن علي بن أبي طلحة ، عن راشد بن سعد ، عن أبي عامر ، عن المقدام الكندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من ترك كلا فإلينا أو إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن ترك مالا فلورثته ، وأنا وارث من لا وارث له ، أرث ماله وأعقل عنه ، والخال وارث من لا وارث له ، يرث ماله ويعقل عنه .

فقال هذا المعارض : إنما ذلك الخال الذي قصد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قصد به إليه هو الخال الذي يعقل الجنايات ، وهو من كان من الخؤولة عصبة دون من سواه من الخؤولة الذين لا يعقلون الجنايات ؛ لأنهم ليسوا عصبات .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أن الذي ذكر من ذلك ليس كما ذكر ، وأن هذا الحديث حقيقته على ما رواه حماد بن [ ص: 172 ] زيد عليه ، لا على ما رواه شعبة عليه ، وإنما أتي شعبة في ذلك ؛ لأنه كان يحدث من حفظه ولا يرجع إلى كتابه ، ويحدث بمعاني ما سمع ، لا بألفاظه التي سمعها ممن حدثه ، إذ كان ذلك مما يعجز عنه ، ولم يكن فقيها فيرد ذلك إلى الفقه حتى تتميز معانيه في قلبه كمالك والثوري ، والدليل على فساد ما روى : هذا الحديث عليه ، وعلى أن الأولى منه ما رواه حماد بن زيد عليه أن في حديثيهما جميعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : والخال وارث من لا وارث له ، فدل ذلك أنه صلى الله عليه وسلم إنما قصد بذلك إلى الخال الذي لا يرث مع وارث سواه من ذوي الأنساب .

وقد وجدنا أهل العلم جميعا لا يختلفون فيمن كان عصبة ممن هو خال ، وممن هو ليس بخال يرث مع ذوي الفرائض المسماة من ذوي الأرحام ، فيرث مع الأم ما يفضل من الميراث بعد نصيبها ، وهو الثلث أو السدس ، ويرث مع البنت الواحدة ، ومع البنات اللاتي فوق الواحدة ما يفضل عن أنصبائهن ، وهو النصف للواحدة والثلثان لمن هو فوق الواحدة منهن ، أعني بذلك أنصباء من يرثه من البنات ، ويرث مع الأخت الواحدة إما لأب وأم ، وإما لأب ما يفضل عنها ، ومع من فوقها من الأخوات اللاتي من أشكالها ما يفضل عنهن من مواريثهن عنه .

فدل ذلك أن الخال الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم هو الخال الذي ليس بعصبة مع تبيانه ذلك صلى الله عليه وسلم لنا بقوله : والخال وارث من لا وارث له ، فأوضح بذلك أنه إنما قصد من الخؤولة من لا يرث مع ذوي الفرائض المسماة ممن ذكرناه ، وهو من ليس بعصبة من الأخوال .

[ ص: 173 ] ثم وجدنا غير حماد بن زيد ، وغير شعبة قد روى هذا الحديث بمثل ما رواه حماد بن زيد به ، لا كمثل ما رواه شعبة به .

2750 - كما قد حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، قال : حدثني راشد بن سعد أنه سمع المقدام بن معدي كرب يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : الله ورسوله مولى من لا مولى له ، يرث ماله ويفك عنوه ، والخال وارث من لا وارث له ، يرث ماله ويفك عنوه .

[ ص: 174 ]

2751 - وكما حدثنا فهد بن سليمان ، وأبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي ، واللفظ لفهد قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، ثم ذكر بإسناده مثله .

وكان هذا الحديث حدث به معاوية بن صالح عن راشد بن سعد ، وهو الذي حدث به بديل بن ميسرة الذي أخذ شعبة وحماد بن زيد هذا الحديث عنه ، فاختلفا عليه فيه ، فكان يجب على مذاهب أهل الحديث أن يكونا لما اختلفا عليه فيه ، فتكافآ في ذلك ، يرتفعان ، ويكون أولى بالحديث منهما من رواه سواهما بما لم يختلف عنه فيه .

فإن قال قائل : فإن معاوية بن صالح لم يذكر في هذا الحديث بين راشد بن سعد وبين المقدام بن معدي كرب أبا عامر الهوزني .

قيل له : ليس ينكر على راشد بن سعد أن يكون سمع المقدام بن معدي كرب ؛ لأنه قد سمع ممن كان في أيامه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد سمع من معاوية بن أبي سفيان ، وأهل الحديث قد يختلفون في أسانيد الحديث فيزيد بعضهم فيها على بعض الرجل ومن هو أكثر منه في العدد ، فوجب أن يحمل أمر معاوية بن صالح في ذلك على مثل ما حملوه عليه فيه .

والذي نعقله من بعده أنه يستحيل عندنا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قصد إلى خال هو عصبة يذكره بالميراث بالخؤولة ، وترك ذكره بالميراث [ ص: 175 ] بالعصبة ؛ لأن العصبة أقوى في الميراث من الخال الذي ليس بعصبة ؛ ولأن الخال الذي ليس بعصبة إنما يرث حيث لا عصبة ، وحيث لا ذوي فروض مسماة ، فيستحيل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد بذكره إلى أضعف حالته ، ويترك ذكره بأقوى حالته ، وما سوى ما يحتاج إليه في توريث ذوي الأرحام بأرحامهم ليس هذا موضعه فيتقصاه ، ويأتي فيه بأكثر مما أتينا فيه ؛ لأنا إنما أتينا منه ببيان المشكل الذي قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لا لما سواه ، وأما ما يحتاج إليه في ذلك مما سوى ما ذكرنا في هذا الباب ، فقد جئنا به في كتابنا في أحكام القرآن ، وفي شرح الآثار ، فغنينا بذلك عن إعادته هاهنا ، والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية