الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم ) والترتيب ظاهر ، وفي التفسير مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال من قبل : ( لتنذر ) وذلك يقتضي الإنذار العام على ما بينا ، وقال هنا : ( إنما تنذر ) وهو يقضي التخصيص فكيف الجمع بينهما ؟ نقول : من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : هو أن قوله : ( لتنذر ) ( السجدة : 3 ) أي كيفما كان سواء كان مفيدا أو لم يكن ، وقوله : ( إنما تنذر ) أي الإنذار المفيد لا يكون إلا بالنسبة إلى من يتبع الذكر ويخشى .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : هو أن الله تعالى لما قال : إن الإرسال والإنزال ، وذكر أن الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلى أهل العناد قال لنبيه : ليس إنذارك غير مفيد من جميع الوجوه ، فأنذر على سبيل العموم ، وإنما تنذر بذلك الإنذار العام من يتبع الذكر ، كأنه يقول : يا محمد إنك بإنذارك تهدي ولا تدري من تهدي ، فأنذر الأسود والأحمر ومقصودك من يتبع إنذارك وينتفع بذكراك .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : هو أن نقول قوله : ( لتنذر ) أي أولا فإذا أنذرت وبالغت وبلغت واستهزأ البعض وتولى واستكبر وولى ، فأعرض بعد ذلك فإنما تنذر الذين اتبعوك .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : وهو قريب من الثالث إنك تنذر الكل بالأصول ، وإنما تنذر بالفروع من ترك الصلاة والزكاة من اتبع الذكر وآمن .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قوله : ( من اتبع الذكر ) يحتمل وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : وهو المشهور من اتبع القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : من اتبع ما في القرآن من الآيات ويدل عليه قوله تعالى : ( والقرآن ذي الذكر ) ( ص : 1 ) فما جعل القرآن نفس الذكر .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : من اتبع البرهان ، فإنه ذكر يكمل الفطرة وعلى كل وجه فمعناه : إنما تنذر العلماء الذين يخشون ، وهو كقوله تعالى : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) ( فاطر : 28 ) وكقوله تعالى : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ( العنكبوت : 9 ) فقوله : ( اتبع الذكر ) أي آمن ، وقوله : ( وخشي الرحمن ) أي عمل صالحا ، وهذا الوجه يتأيد بقوله : ( فبشره بمغفرة وأجر كريم ) لأنا ذكرنا مرارا أن الغفران جزاء الإيمان ، فكل مؤمن مغفور ، والأجر الكريم جزاء العمل ، كما قال تعالى : ( الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم ) ( سبأ : 4 ) وتفسير الذكر بالقرآن يتأيد بتعريف الذكر بالألف واللام ، وقد تقدم ذكر القرآن في قوله تعالى : ( والقرآن الحكيم ) وقوله : ( وخشي الرحمن ) فيه لطيفة وهي أن الرحمة تورث الاتكال والرجاء ، فقال مع أنه رحمن ورحيم فالعاقل لا ينبغي أن يترك الخشية فإن كل من كانت نعمته بسبب رحمته أكثر فالخوف منه أتم مخافة أن يقطع عنه النعم المتواترة ، وتكملة اللطيفة : وهي أن من أسماء الله اسمين يختصان به هما الله والرحمن كما قال تعالى : ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ) ( الإسراء : 110 ) حتى قال بعض الأئمة : هما علمان إذا عرفت هذا فالله اسم ينبئ عن الهيبة والرحمن ينبئ عن العاطفية ، فقال في موضع : يرجو الله ، وقال ههنا : ( وخشي الرحمن ) يعني مع كونه ذا هيبة لا تقطعوا عنه رجاءكم ، ومع كونه ذا رحمة لا تأمنوه ، وقوله : ( بالغيب ) يعني بالدليل ، وإن لم ينته إلى درجة المرئي المشاهد فإن عند الانتهاء إلى تلك الدرجة لا يبقى للخشية فائدة ، والمشهور أن المراد بالغيب ما غاب عنا وهو أحوال القيامة ، وقيل : إن الوحدانية تدخل فيه ، [ ص: 43 ] وقوله : ( فبشره ) فيه إشارة إلى الأمر الثاني من أمري الرسالة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بشير ونذير ، وقد ذكر أنه أرسل لينذر ، وذكر أن الإنذار النافع عند اتباع الذكر ، فقال : بشر كما أنذرت ونفعت ، وقوله : ( بمغفرة ) على التنكير أي بمغفرة واسعة تستر من جميع الجوانب حتى لا يرى عليه أثر من آثار النفس ، ويظهر عليه أنوار الروح الزكية ( وأجر كريم ) أي ذي كرم ، وقد ذكرنا ما في الكريم في قوله : ( ورزق كريم ) ( سبأ : 4 ) وفي قوله : ( رزقا كريما ) ( الأحزاب : 31 ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية