الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وفيه وجهان : والترتيب ظاهر على الوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : هو أن يكون المعنى : واضرب لأجلهم مثلا .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن يكون المعنى : واضرب لأجل نفسك أصحاب القرية لهم مثلا أي : مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية ، وعلى الأول نقول : لما قال الله : ( إنك لمن المرسلين ) ( الأحقاف : 9 ) وقال : ( لتنذر ) ( السجدة : 3 ) قال : قل لهم : ( ما كنت بدعا من الرسل ) ( الأحقاف : 9 ) بل قبلي بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون ، وأنذروهم بما أنذرتكم ، وذكروا التوحيد وخوفوا بالقيامة وبشروا بنعيم دار الإقامة ، وعلى الثاني نقول : لما قال الله تعالى : إن [ ص: 45 ] الإنذار لا ينفع من أضله الله وكتب عليه أنه لا يؤمن ، قال للنبي عليه الصلاة والسلام : فلا تأس واضرب لنفسك ولقومك مثلا ، أي مثل لهم عند نفسك مثلا حيث جاءهم ثلاثة رسل ولم يؤمنوا وصبر الرسل على القتل والإيذاء ، وأنت جئتهم واحدا وقومك أكثر من قوم الثلاثة ، فإنهم جاءوا قرية وأنت بعثت إلى العالم ، وفي التفسير مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : ما معنى قول القائل ضرب مثلا ؟ وقوله تعالى : ( واضرب ) مع أن الضرب في اللغة ، إما إمساس جسم جسما بعنف ، وإما السير إذا قرن به حرف في ، كقوله تعالى : ( وإذا ضربتم في الأرض ) ( النساء : 101 ) ؟ نقول : قوله ضرب مثلا معناه : مثل مثلا ، وذلك لأن الضرب اسم للنوع ، يقال : هذه الأشياء من ضرب واحد ؛ أي اجعل هذا وذاك من ضرب واحد .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : أصحاب القرية ، معناه : واضرب لهم مثلا مثل أصحاب القرية ، فترك المثل وأقيم الأصحاب مقامه في الإعراب ، كقوله : ( واسأل القرية ) ( يوسف : 82 ) هذا قول الزمخشري في الكشاف ، ويحتمل أن يقال : لا حاجة إلى الإضمار بل المعنى : اجعل أصحاب القرية لهم مثلا أو مثل أصحاب القرية بهم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : إذ جاءها المرسلون ، إذ منصوبة لأنها بدل من أصحاب القرية ، كأنه قال تعالى : ( واضرب لهم ) وقت مجيء المرسلين ، ومثل ذلك الوقت بوقت مجيئك ، وهذا أيضا قول الزمخشري وعلى قولنا : إن هذا المثل مضروب لنفس محمد صلى الله عليه وسلم تسلية ، فيحتمل أن يقال : إذ ظرف منصوب بقوله : ( اضرب ) أي اجعل الضرب ، كأنه حين مجيئهم وواقع فيه ، والقرية أنطاكية والمرسلون من قوم عيسى ، وهم أقرب مرسل أرسل إلى قوم إلى زمان محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم ثلاثة كما بين الله تعالى ، وقوله : ( إذ أرسلنا ) يحتمل وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون إذ أرسلنا بدلا من إذ جاءها ، كأنه قال : اضرب لهم مثلا ، إذ أرسلنا إلى أصحاب القرية اثنين .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : وهو الأصح والأوضح أن يكون إذ ظرفا والفعل الواقع فيه جاءها أي جاءها المرسلون حين أرسلناهم إليهم ؛ أي لم يكن مجيئهم من تلقاء أنفسهم ، وإنما جاءوهم حيث أمروا ، وهذا فيه لطيفة : وهي أن في الحكاية أن الرسل كانوا مبعوثين من جهة عيسى عليه السلام أرسلهم إلى أنطاكية ، فقال تعالى : إرسال عيسى عليه السلام هو إرسالنا ورسول رسول الله بإذن الله رسول الله ، فلا يقع لك يا محمد أن أولئك كانوا رسول الرسول ، وأنت رسول الله ، فإن تكذيبهم كتكذيبك فتتم التسلية بقوله : ( إذ أرسلنا ) وهذا يؤيد مسألة فقهية ، وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل وكيل الموكل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل الأول ، وهذا على قولنا : ( واضرب لهم مثلا ) ضرب المثل لأجل محمد صلى الله عليه وسلم ظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية