الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال : ( إن يردن الرحمن بضر ) ( الزمر : 38 ) ولم يقل : إن أراد الله بي ضرا ، نقول : الفعل إذا كان متعديا إلى مفعول واحد تعدى إلى مفعولين بحرف كاللازم يتعدى بحرف في قولهم : ذهب به وخرج به ، ثم إن المتكلم البليغ يجعل المفعول بغير حرف ما هو أولى بوقوع الفعل عليه ، ويجعل الآخر مفعولا لا بحرف ، فإذا قال القائل مثلا : كيف حال فلان ؟ يقول اختصه الملك بالكرامة والنعمة ، فإذا قال : كيف كرامة الملك ؟ يقول : اختصها بزيد ، فيجعل المسؤول مفعولا بغير حرف ؛ لأنه هو المقصود ، إذا علمت هذا ، فالمقصود فيما نحن فيه بيان كون العبد تحت تصرف الله يقلبه كيف يشاء في البؤس والرخاء ، وليس الضر بمقصود بيانه ، كيف والقائل مؤمن يرجو الرحمة والنعمة بناء على إيمانه بحكم وعد الله ويؤيد هذا قوله من قبل : ( الذي فطرني ) حيث جعل نفسه مفعول الفطرة ، فكذلك جعلها مفعول الإرادة ، وذكر الضر وقع تبعا ، وكذا القول في قوله تعالى : ( إن أرادني الله بضر ) ( الزمر : 38 ) المقصود بيان أنه يكون كما يريد الله ، وليس الضر بخصوصه مقصودا بالذكر ويؤيده ما تقدم حيث قال تعالى : ( أليس الله بكاف عبده ) ( الزمر : 36 ) يعني هو تحت إرادته ويتأيد ما ذكرناه بالنظر في قوله تعالى : ( قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا ) [ ص: 52 ] ( الأحزاب : 17 ) حيث خالف هذا النظم وجعل المفعول من غير حرف السوء ، وهو كالضر ، والمفعول بحرف هو المكلف ، وذلك لأن المقصود ذكر الضر للتخويف وكونهم محلا له ، وكيف لا وهم كفرة استحقوا العذاب بكفرهم فجعل الضر مقصودا بالذكر لزجرهم ، فإن قيل : فقد ذكر الله الرحمة أيضا حيث قال : ( أو أراد بكم رحمة ) ( الأحزاب : 17 ) وإنما ذكر الرحمة تتمة للأمر بالتقسيم الحاصر ، وكذلك إذا تأملت في قوله تعالى : ( يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا ) ( الفتح : 11 ) فإن الكلام أيضا مع الكفار ، وذكر النفع وقع تبعا لحصر الأمر بالتقسيم ، ويدل عليه قوله تعالى : ( بل كان الله بما تعملون خبيرا ) ( الفتح : 11 ) فإنه للتخويف ، وهذا كقوله تعالى : ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) ( سبأ : 24 ) ، والمقصود : إني على هدى وأنتم في ضلال ، ولو قال هكذا لمنع مانع ، فقال بالتقسيم كذلك ههنا المقصود الضر واقع بكم ولأجل دفع المانع قال الضر والنفع .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال ههنا : ( إن يردن الرحمن ) وقال في الزمر : ( إن أرادني الله ) ( الزمر : 38 ) فما الحكمة في اختيار صيغة الماضي هنالك ، واختيار صيغة المضارع ههنا ، وذكر المريد باسم الرحمن هنا ، وذكر المريد باسم الله هناك ؟ نقول : أما الماضي والمستقبل فإن إن في الشرط تصير الماضي مستقبلا ، وذلك لأن المذكور ههنا من قبل بصيغة الاستقبال في قوله : ( أأتخذ ) وقوله : ( وما لي لا أعبد ) والمذكور هناك من قبل بصيغة الماضي في قوله : ( أفرأيتم ) ( النجم : 19 ) وكذلك في قوله تعالى : ( وإن يمسسك الله بضر ) ( يونس : 107 ) لكون المتقدم عليه مذكورا بصيغة المستقبل ، وهو قوله : ( من يصرف عنه ) ( الأنعام : 16 ) وقوله : ( إني أخاف إن عصيت ) ( الأنعام : 15 ) والحكمة فيه هو أن الكفار كانوا يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم بضر يصيبه من آلهتهم فكأنه قال : صدر منكم التخويف ، وهذا ما سبق منكم ، وههنا ابتداء كلام صدر من المؤمن للتقرير ، والجواب : ما كان يمكن صدوره منهم فافترق الأمران ، وأما قوله هناك : ( إن أرادني الله ) ( الزمر : 38 ) فنقول : قد ذكرنا أن الاسمين المختصين بواجب الوجود الله والرحمن ، كما قال تعالى : ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ) ( الإسراء : 110 ) والله للهيبة والعظمة ، والرحمن للرأفة والرحمة ، وهناك وصف الله بالعزة والانتقام في قوله : ( أليس الله بعزيز ذي انتقام ) ( الزمر : 37 ) وذكر ما يدل على العظمة بقوله : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ) ( لقمان : 25 ) فذكر الاسم الدال على العظمة ، وقال ههنا ما يدل على الرحمة ، بقوله : ( الذي فطرني ) فإنه نعمة هي شرط سائر النعم ، فقال : ( إن يردن الرحمن بضر ) ثم قال تعالى : ( لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون ) على ترتيب ما يقع من العقلاء ، وذلك لأن من يريد دفع الضر عن شخص أضر به شخص يدفع بالوجه الأحسن فيشفع أولا ، فإن قبله وإلا يدفع ، فقال : ( لا تغن عني شفاعتهم ) ولا يقدرون على إنقاذي بوجه من الوجوه ، وفي هذه الآيات حصل بيان أن الله تعالى معبود من كل وجه إن كان نظرا إلى جانبه ، فهو فاطر ورب مالك يستحق العبادة سواء أحسن بعد ذلك ، أو لم يحسن وإن كان نظرا إلى إحسانه فهو رحمن ، وإن كان نظرا إلى الخوف فهو يدفع ضره ، وحصل بيان أن غيره لا يصلح أن يعبد بوجه من الوجوه ، فإن أدنى مراتبه أن يعد ذلك ليوم كريهة ، وغير الله لا يدفع شيئا إلا إذا أراد الله ، وإن يرد فلا حاجة إلى دافع .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية