الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون وإن كل لما جميع لدينا محضرون )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ياحسرة على العباد ) أي هذا وقت الحسرة ، فاحضري يا حسرة ، والتنكير للتكثير ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : الألف واللام في العباد يحتمل وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : للمعهود ، وهم الذين أخذتهم الصيحة ، فيا حسرة على أولئك .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : لتعريف الجنس جنس الكفار المكذبين .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : من المتحسر ؟ نقول فيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : لا متحسر أصلا في الحقيقة ؛ إذ المقصود بيان أن ذلك وقت طلب الحسرة حيث تحققت الندامة عند تحقق العذاب .

                                                                                                                                                                                                                                            وههنا بحث لغوي : وهو أن المفعول قد يرفض رأسا إذا كان الغرض غير متعلق به ، يقال : إن فلانا يعطي ويمنع ، ولا يكون هناك شيء معطى ، إذ المقصود أن له المنع والإعطاء ، ورفض المفعول كثير ، وما نحن فيه رفض الفاعل وهو قليل ، والوجه فيه ما ذكرنا : إن ذكر المتحسر غير مقصود ، وإنما المقصود أن الحسرة متحققة في ذلك الوقت .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن قائل : يا حسرة هو الله على الاستعارة تعظيما للأمر وتهويلا له ، وحينئذ يكون كالألفاظ التي وردت في حق الله كالضحك والنسيان والسخر والتعجب والتمني ، أو نقول : ليس معنى قولنا : يا حسرة ويا ندامة ، أن القائل متحسر أو نادم ، بل المعنى أنه مخبر عن وقوع الندامة ، ولا يحتاج إلى تجوز في بيان كونه تعالى قال : ( ياحسرة ) بل يخبر به على حقيقته إلا في الندامة ، فإن النداء مجاز ، والمراد الإخبار .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : المتلهفون من المسلمين والملائكة ، ألا ترى إلى ما حكي عن حبيب أنه حين القتل كان يقول : اللهم [ ص: 56 ] اهد قومي ، وبعد ما قتلوه وأدخل الجنة ، قال : يا ليت قومي يعلمون ، فيجوز أن يتحسر المسلم للكافر ويتندم له وعليه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قرئ ( يا حسرة ) بالتنوين ، و ( يا حسرة العباد ) بالإضافة من غير كلمة على ، وقرئ يا حسرة على بالهاء إجراء للوصل مجرى الوقف .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : من المراد بالعباد ؟ نقول فيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : الرسل الثلاثة كأن الكافرين يقولون عند ظهور البأس : يا حسرة عليهم يا ليتهم كانوا حاضرين شأننا لنؤمن بهم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : هم قوم حبيب .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : كل من كفر وأصر واستكبر ، وعلى الأول فإطلاق العباد على المؤمنين كما في قوله : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) ( الحجر : 42 ) وقوله : ( ياعبادي الذين أسرفوا ) ( الزمر : 53 ) وعلى الثاني فإطلاق العباد على الكفار ، وفرق بين العبد مطلقا وبين المضاف إلى الله تعالى ، فإن الإضافة إلى الشريف تكسو المضاف شرفا ، تقول : بيت الله ، فيكون فيه من الشرف ما لا يكون في قولك : البيت ، وعلى هذا فقوله تعالى : ( وعباد الرحمن ) ( الفرقان : 63 ) من قبيل قوله : ( إن عبادي ) وكذلك : ( عباد الله ) ( الإنسان : 6 ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم بين الله تعالى سبب الحسرة بقوله تعالى : ( وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ) وهذا سبب الندامة ، وذلك لأن من جاءه ملك من بادية ، وأعرفه نفسه ، وطلب منه أمرا هينا فكذبه ولم يجبه إلى ما دعاه ، ثم وقف بين يديه وهو على سرير ملكه فعرفه أنه ذلك ، يكون عنده من الندامة ما لا مزيد عليه ، فكذلك الرسل هم ملوك وأعظم منهم بإعزاز الله إياهم وجعلهم نوابه ، كما قال : ( إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) ( آل عمران : 31 ) وجاءوا وعرفوا أنفسهم ، ولم يكن لهم عظمة ظاهرة في الحس ، ثم يوم القيامة أو عند ظهور البأس ظهرت عظمتهم عند الله لهم ، وكان ما يدعون إليه أمرا هينا نفعه عائد إليهم من عبادة الله ، وما كانوا يسألون عليه أجرا ، فعند ذلك تكون الندامة الشديدة ، وكيف لا وهم يقتنعون بالإعراض حتى آذوا واستهزءوا واستخفوا واستهانوا ، وقوله : ( ما يأتيهم ) الضمير يجوز أن يكون عائدا إلى قوم حبيب ، أي ما يأتيهم من رسول من الرسل الثلاثة ( إلا كانوا به يستهزئون ) على قولنا : الحسرة عليهم ، ويجوز أن يكون عائدا إلى الكفار المصرين .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إن الله تعالى لما بين حال الأولين قال للحاضرين : ( ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون ) أي الباقون لا يرون ما جرى على من تقدمهم ، ويحتمل أن يقال : إن الذين قيل في حقهم : ( ياحسرة ) هم الذين قال في حقهم : ( ألم يروا ) ومعناه أن كل مهلك تقدمه قوم كذبوا وأهلكوا إلى قوم نوح وقبله .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله : ( أنهم إليهم لا يرجعون ) بدل في المعنى عن قوله : ( كم أهلكنا ) وذلك لأن معنى : ( كم أهلكنا ) ألم يروا كثرة إهلاكنا ، وفي معنى : ألم يروا المهلكين الكثيرين أنهم إليهم لا يرجعون ، وحينئذ يكون كبدل الاشتمال ، لأن قوله : ( أنهم إليهم لا يرجعون ) حال من أحوال المهلكين ، أي أهلكوا بحيث لا رجوع لهم إليهم ، فيصير كقولك : ألا ترى زيدا أدبه ، وعلى هذا فقوله : ( أنهم إليهم لا يرجعون ) فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أهلكوا إهلاكا لا رجوع لهم إلى من في الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : هو أنهم لا يرجعون إليهم ، أي الباقون لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة ، يعني أهلكناهم وقطعنا نسلهم ، ولا شك في أن الإهلاك الذي يكون مع قطع النسل أتم وأعم ، والوجه الأول أشهر نقلا ، والثاني أظهر عقلا .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 57 ] ثم قال تعالى : ( وإن كل لما جميع لدينا محضرون ) لما بين الإهلاك بين أنه ليس من أهلكه الله تركه ، بل بعده جمع وحساب وحبس وعقاب ، ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحة ، ونعم ما قال القائل :


                                                                                                                                                                                                                                            ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي     ولكنا إذا متنا بعثنا
                                                                                                                                                                                                                                            ونسأل بعده عن كل شي



                                                                                                                                                                                                                                            وقوله : ( وإن كل لما ) في إن وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنها مخففة من الثقيلة ، واللام في لما فارقة بينها وبين النافية ، وما زائدة مؤكدة في المعنى ، والقراءة حينئذ بالتخفيف في لما .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : أنها نافية ولما بمعنى إلا ، قال سيبويه : يقال : نشدتك بالله لما فعلت ، بمعنى إلا فعلت ، والقراءة حينئذ بالتشديد في لما ، يؤيد هذا ما روي أن أبيا قرأ ( وما كل إلا جميع ) وفي قول سيبويه : لما بمعنى إلا وارد معنى مناسب ، وهو أن لما كأنها حرفا نفي جمعا ، وهما لم وما فتأكد النفي ، ولهذا يقال في جواب من قال : قد فعل لما يفعل ، وفي جواب من قال فعل لم يفعل ، وإلا كأنها حرفا نفي إن ولا فاستعمل أحدهما مكان الآخر ، قال الزمخشري : فإن قال قائل : كل وجميع بمعنى واحد ، فكيف جعل جميعا خبرا لكل حيث دخلت اللام عليه ، إذ التقدير : وإن كل لجميع ؟ نقول : معنى جميع مجموع ، ومعنى كل : كل فرد حيث لا يخرج عن الحكم أحد ، فصار المعنى : كل فرد مجموع مع الآخر مضموم إليه ، ويمكن أن يقال : محضرون ، يعني عما ذكره ، وذلك لأنه لو قال : وإن جميع لجميع محضرون ، لكان كلاما صحيحا ولم يوجد ما ذكره من الجواب ، بل الصحيح أن ( محضرون ) كالصفة للجميع ، فكأنه قال : جميع جميع محضرون ، كما يقال : الرجل رجل عالم ، والنبي نبي مرسل ، والواو في ( وإن كل ) لعطف الحكاية على الحكاية ، كأنه يقول : بينت لك ما ذكرت ، وأبين أن كلا لدينا محضرون ، وكذلك الواو في قوله تعالى :

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية