الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا

اعتراض بين جملة ( يشربون من كأس ) إلخ وبين جملة ( ويطاف عليهم بآنية من فضة ) إلخ . وهذا الاعتراض استئناف بياني هو جواب عن سؤال من شأن الكلام السابق أن يثيره في نفس السامع المغتبط بأن ينال مثل ما نالوا من النعيم والكرامة في الآخرة . فيهتم بأن يفعل مثلما فعلوا ، فذكر بعض أعمالهم الصالحة التي هي من آثار الإيمان مع التعريض لهم بالاستزادة منها في الدنيا .

والكلام إخبار عنهم صادر في وقت نزول هذه الآيات ، بعضه وصف لحالهم في الآخرة وبعضه وصف لبعض حالهم في الدنيا الموجب لنوال ما نالوه في الآخرة ، فلا حاجة إلى قول الفراء : إن في الكلام إضمارا . وتقديره : كانوا يوفون بالنذر .

وليست الجملة حالا من الأبرار وضميرهم لأن الحال قيد لعاملها فلو جعلت حالا لكانت قيدا لـ ( يشربون ) ، وليس وفاؤهم بالنذر بحاصل في وقت شربهم من خمر الجنة بل هو بما أسلفوه في الحياة الدنيا .

والوفاء : أداء ما وجب على المؤدي وافيا دون نقص ولا تقصير فيه .

والنذر : ما يعتزمه المرء ويعقد عليه نيته ، قال عنترة :


والناذرين إذا لم ألقهما دمي

والمراد به هنا ما عقدوا عليه عزمهم من الإيمان والامتثال وهو ما استحقوا به صفة ( الأبرار ) .

ويجوز أن يراد بـ ( النذر ) ما ينذرونه من فعل الخير المتقرب به إلى الله ، أي ينشئون النذور بها ليوجبوها على أنفسهم .

وجيء بصيغة المضارع للدلالة على تجدد وفائهم بما عقدوا عليه ضمائرهم من [ ص: 383 ] الإيمان والعمل الصالح ، وذلك مشعر بأنهم يكثرون نذر الطاعات وفعل القربات ولولا ذلك لما كان الوفاء بالنذر موجبا الثناء عليهم .

والتعريف في النذر تعريف الجنس فهو يعم كل نذر .

وعطف على ( يوفون بالنذر ) قوله ( ويخافون يوما كان شره مستطيرا ) لأنهم لما وصفوا بالعمل بما ينذرونه أتبع ذلك بذكر حسن نيتهم وتحقق إخلاصهم في أعمالهم لأن الأعمال بالنيات فجمع لهم بهذا صحة الاعتقاد وحسن الأعمال .

وخوفهم اليوم مجاز عقلي جرى في تعلق اليوم بالخوف لأنهم إنما يخافون ما يجري في ذلك اليوم من الحساب والجزاء على الأعمال السيئة بالعقاب فعلق فعل الخوف بزمان الأشياء المخوفة .

وانتصب ( يوما ) على المفعول به لـ ( يخافون ) ولا يصح نصبه على الظرفية لأن المراد بالخوف خوفهم في الدنيا من ذنوب تجر إليهم العقاب في ذلك اليوم . وليس المراد أنهم يخافون في ذلك اليوم فإنهم في ذلك اليوم آمنون .

ووصف اليوم بأن له شرا مستطيرا وصفا مشعرا بعلة خوفهم إياه . فالمعنى : أنهم يخافون شر ذلك اليوم فيتجنبون ما يفضي بهم إلى شره من الأعمال المتوعد عليها بالعقاب .

والشر : العذاب والجزاء السوء .

والمستطير : هو اسم فاعل من استطار القاصر ، والسين والتاء في استطار للمبالغة وأصله طار مثل استكبر . والطيران مجازي مستعار لانتشار الشيء وامتداده تشبيها له بانتشار الطير في الجو ، ومنه قولهم : الفجر المستطير وهو الفجر الصادق الذي ينتشر ضوءه في الأفق ويقال : استطار الحريق إذا انتشر وتلاحق .

وذكر فعل كان للدلالة على تمكن الخبر من المخبر عنه وإلا فإن شر ذلك اليوم ليس واقعا في الماضي وإنما يقع بعد مستقبل بعيد ، ويجوز أن يجعل ذلك من التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيها على تحقق وقوعه .

وصيغة يخافون دالة على تجدد خوفهم شر ذلك اليوم على نحو قوله ( يوفون بالنذر ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية