الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون )

                                                                                                                                                                                                                                            إشارة إلى أن كل شيء من الأشياء المذكورة خلق على وفق الحكمة ، فالشمس لم تكن تصلح لها سرعة الحركة بحيث تدرك القمر ، وإلا لكان في شهر واحد صيف وشتاء ، فلا تدرك الثمار .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله : ( ولا الليل سابق النهار ) قيل في تفسيره : إن سلطان الليل وهو القمر ليس يسبق الشمس وهي سلطان النهار .

                                                                                                                                                                                                                                            وقيل : معناه ولا الليل سابق النهار أي الليل لا يدخل وقت النهار .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني بعيد ؛ لأن ذلك يقع إيضاحا للواضح ، والأول صحيح إن أريد به ما بينته ، وهو أن معنى قوله تعالى : ( ولا الليل سابق النهار ) أن القمر إذا كان على أفق المشرق أيام الاستقبال تكون الشمس في مقابلته على أفق المغرب ، ثم إن عند غروب الشمس يطلع القمر وعند طلوعها يغرب القمر ، كأن لها حركة واحدة مع أن الشمس تتأخر عن القمر في ليلة مقدارا ظاهرا في الحس ، فلو كان للقمر حركة واحدة بها يسبق الشمس ولا تدركه الشمس ، وللشمس حركة واحدة بها تتأخر عن القمر ولا تدرك القمر ؛ لبقي القمر والشمس مدة مديدة في مكان واحد ، لأن حركة الشمس كل يوم درجة ، فخلق الله تعالى في جميع الكواكب حركة أخرى غير حركة الشهر والسنة ، وهي الدورة اليومية وبهذه الدورة لا يسبق كوكب كوكبا أصلا ، لأن كل كوكب من الكواكب إذا طلع غرب مقابله وكلما تقدم كوكب إلى الموضع الذي فيه الكوكب الآخر بالنسبة إلينا تقدم ذلك الكوكب ، فبهذه الحركة لا يسبق الشمس ، فتبين أن سلطان الليل لا يسبق سلطان النهار ، فالمراد من الليل القمر ومن النهار الشمس ، فقوله : ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ) إشارة إلى حركتها البطيئة التي تتم الدورة في سنة ، وقوله : ( ولا الليل سابق النهار ) إشارة إلى حركتها اليومية التي بها تعود من المشرق إلى المشرق مرة أخرى في يوم وليلة ، وعلى هذا ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 65 ] المسألة الأولى : ما الحكمة في إطلاق الليل وإرادة سلطانه وهو القمر ، وماذا يكون لو قال ولا القمر سابق الشمس ؟ نقول : لو قال : ولا القمر سابق الشمس ما كان يفهم أن الإشارة إلى الحركة اليومية ، فكان يتوهم التناقض ، فإن الشمس إذا كانت لا تدرك القمر أسرع ظاهرا ، وإذا قال : ولا القمر سابق يظن أن القمر لا يسبق فليس بأسرع ، فقال : الليل والنهار ليعلم أن الإشارة إلى الحركة التي بها تتم الدورة في مدة يوم وليلة ، ويكون لجميع الكواكب أو عليها طلوع وغروب في الليل والنهار .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : ما الفائدة في قوله تعالى : ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك ) بصيغة الفعل ، وقوله : ( ولا الليل سابق النهار ) بصيغة اسم الفاعل ، ولم يقل : ولا الليل يسبق ، ولا قال : مدركة القمر ؟ نقول : الحركة الأولية التي للشمس ، ولا يدرك بها القمر مختصة بالشمس ، فجعلها كالصادرة منها ، وذكر بصيغة الفعل لأن صيغة الفعل لا تطلق على من لا يصدر منه الفعل ، فلا يقال : هو يخيط ، ولا يكون يصدر منه الخياطة .

                                                                                                                                                                                                                                            والحركة الثانية ليست مختصة بكوكب من الكواكب ، بل الكل فيها مشتركة بسبب حركة فلك فليس ذلك فلكا لكوكب من الكواكب ، فالحركة ليست كالصادرة منه ، فأطلق اسم الفاعل ؛ لأنه لا يستلزم صدور الفعل ، يقال : فلان خياط وإن لم يكن خياطا ، فإن قيل قوله تعالى : ( يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا ) ( الأعراف : 54 ) يدل على خلاف ما ذكرتم ، لأن النهار إذا كان يطلب الليل فالليل سابقه ، وقلتم إن قوله : ( ولا الليل سابق النهار ) معناه ما ذكرتم فيكون الليل سابقا ولا يكون سابقا .

                                                                                                                                                                                                                                            نقول : قد ذكرنا أن المراد بالليل ههنا سلطان الليل وهو القمر ، وهو لا يسبق الشمس بالحركة اليومية السريعة ، والمراد من الليل هناك نفس الليل وكل واحد لما كان في عقيب الآخر فكأنه طالبه ، فإن قيل : فلم ذكر ههنا ( سابق النهار ) وقد ذكر هناك يطلبه ، ولم يقل : طالبه ؟ نقول : ذلك لما بينا من أن المراد في هذه السورة من الليل كوكب الليل ، وهي في هذه الحركة كأنها لا حركة لها ولا تسبق ، ولا من شأنها أنها سابقة ، والمراد هناك نفس الليل والنهار ، وهما زمانان ، والزمان لا قرار له ، فهو يطلب حثيثا لصدور التقصي منه ، وقوله تعالى : ( وكل في فلك يسبحون ) يحقق ما ذكرنا أي للكل طلوع وغروب في يوم وليلة لا يسبق بعضها بعضا ، بالنسبة إلى هذه الحركة ، وكل حركة في فلك تخصه ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : التنوين في قوله ( وكل ) عوض عن الإضافة معناه كل واحد ، وإسقاط التنوين للإضافة حتى لا يجتمع التعريف والتنكير في شيء واحد ، فلما سقط المضاف إليه لفظا رد التنوين عليه لفظا ، وفي المعنى معرف بالإضافة ، فإن قيل : فهل يختلف الأمر عند الإضافة لفظا وتركها ؟ فنقول : نعم ، وذلك لأن قول القائل : كل واحد من الناس كذا لا يذهب الفهم إلى غيرهم ، فيفيد اقتصار الفهم عليه ، فإذا قال : كل كذا يدخل في الفهم عموم أكثر من العموم عند الإضافة ، وهذا كما في قبل وبعد إذا قلت : افعل قبل كذا ، فإذا حذفت المضاف ، وقلت : افعل قبل أفاد فهم الفعل قبل كل شيء ، فإن قيل : فهل بين قولنا : كل منهم ، وبين قولنا : كلهم ، وبين : كل فرق ؟ نقول : نعم عند قولك : كلهم تثبت الأمر للاقتصار عليهم ، وعند قولك : كل منهم تثبت الأمر أولا للعموم ، ثم استدركت بالتخصيص ، فقلت : منهم ، وعند قولك : كل ، ثبت الأمر على العموم وتتركه عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : إذا كان كل بمعنى كل واحد منهم والمذكور الشمس والقمر ، فكيف قال : ( يسبحون ) ؟ نقول : الجواب عنه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : ما بينا أن قوله كل للعموم ، فكأنه أخبر عن كل كوكب في السماء سيار .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 66 ] ثانيها : إن لفظ كل يجوز أن يوحد نظرا إلى كونه لفظا موحدا غير مثنى ولا مجموع ، ويجوز أن يجمع لكون معناه جمعا ، وأما التثنية فلا يدل عليها اللفظ ولا المعنى ، فعلى هذا يحسن أن يقول القائل : زيد وعمرو كل جاء أو كل جاءوا ، ولا يقول : كل جاءا بالتثنية .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : لما قال : ( ولا الليل سابق النهار ) والمراد ما في الليل من الكواكب قال : ( يسبحون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية